22‏/12‏/2022

بناء عنوان دابادا / عدنان أبو أندلس

 

ركائز التقطيع لأساس بناء عنوان رواية

"دابادا" للراحل حسن مطلك 

عدنان أبو أندلس

صراحة تباطأتُ كثيراً في قراءة هذه الرواية من حيث كونها عصية على الإدراك، وحسب ما قيل:" لمسنا وبشكل مباشر صعوبة الفهم لرواية "دابادا"*1 من قبل القُراء العاديين وكثير من المثقفين"*2. نعم وجدت ذلك عياناً، ومن ثم هي لا تعطي نفسها بسهولة، لوجود مصدات نفسية مخترقة لفضائها الصاخب في الهدوء، وذلك التعالق النفسي والفلسفي الشرس الذي تستبطنهُ، ويموء في حبكتها كي ينفجر، ونقلات مقتطعة قصدياً أخذت شكل الترميز والتمويه والإبهام. لذا آليت على نفسي أن اخذ عنوانها، حصراً:" إن هذه الرواية شأنها شأن أي عمل إبداعي مُجد، لا يمكن تلخيصها، فتلخيص الرواية لا يُبقي إلا على الحكاية فيها"*3. حيث تجمعت هذه التكهنات سوية فكانت لي عائقاً من إكمالها. حقيقة رأيتها قد غرفت من شتى المناهج والمدارس بكل صنوفها، وقد انفتحت على مصاريعها تجاه النصوص والأجناس الأخرى.. حتى حسبتُ من دون إنهائها، وأيضاً بعدها لمزاجي المتقلب بين المضي أو الارتخاء حيناً آخر، لذا عزفت عن إكمالها رغم محاولتي لمرات عدة، غير أن أقلب صفحاتها الاستهلالية، وأركنها جانباً وأتخلى عن مقصدي، لكن هذه المرة عزمت أن أكملها رغم تململي منها، وقد حدث هذا، لذا تراني قد ارتحت هنيئة، غير أني لم أفك رموزها وطلاسمها المبثوثة في متنها كما كنتُ اتشهى.. حيث ابتعدت عن تأويلها وتحليلها غير أني تناولتُ "العنوان “بوصفه المدخل أو العتبة التي يجري التفاوض عليه لكشف مخبوءات النص الذي يتقدمه ذلك العنوان"*4. فهو بحد ذاته المستغلق الذي يمكن أن يُفتح رغم غلقهِ بإتقان محكم، وهو عتبة أولية ومفتاح للولوج لتلك الغابة المكتظة ودروبها غير المطروقة. لو ركزنا على اللفظ "دابادا" نراه بحد ذاته، من أنه بني بهندسة معمارية ورصفت حروفه بدقة، وثبتت على ركائز أساسية كدعامة من التشفير والألغاز ورصف حروف متعاقبة، وكذلك لما للعنوان من قيمة فنية في معرفة ما في متن النص، من استمكانات "للعنوان أهمية خاصة في توجيه النظر الى البؤرة التي تنكشف عندها خطوط الموضوع ومناحي القول فيه"*5 تحيلنا عنونة الرواية الى سماع الدوي البعيد بتعاقب انفجار حروفها المتتالية، هي حين نتلفظ مفردة "دابادا "وكأنها صرخة في فراغ العدم... يبدأ التقطيع لها من حيث التشكيل "دا "لذا يخال لنا بأنها لفظة طفولية بائنة من خلال الترديد والتلفظ، تحمل معها قوة صراخ مستعصية لا تحدها حدود أو عوازل، حيث الوحدة قاتلة للضياع، والنافذة مشرعة على الأثير لكنها لا تسع الصيحة المكبوتة بقوتها.  ومقطع "با" فقدان الأبوة في مرحلة فرز الأصوات الأولية، ربما، أي مرحلة بداية الصبا، لذا كان اللفظ ينطلق من أعماق النفس. ومقطع "دا" المكرر هو رجع الصدى من تلك الدائرة اللفظية المحكمة.. هذه الحروف تشكل في تراتبيتها بؤرة مسحورة في المتن، وتفاعل غريزي فعال في الحبكة، لذا تكون في المجمل بما يشبه الهذيان من سيل الكلمات التي ينقلنا اللفظ الى صراع زمني متقادم للغة الطفولة التي فقد أحساس المناداة له بـ الأبوة، ويلاحظ من تقطيع الحروف وكأنه يردد "دا" الأخوة والألفة، و"با" وكأنه يتلفظ مفردة "الأب"، أما "دا" المتكررة وكأنه رجع الصدى في ارتطام قسري.. حيث تجدها ملغزة –مطلسمة – مموهه – رصف حروف وتعاقبها، صرخات طفولية مكتومة، حتى أضحت تراكمات مختمرة.. إن الزمن ضائع ومفقود فيها، هي صرخة لأقاصي الجزع من الكلام. ولها تشبيهات وتوصيفات عدة ببعدها الفلسفي وحمولاته حيث تدور الحروف وتناور على تشكيلة حتى ينطق الأخرس بكلمة مفهومة.

فـ"دابادا" هي أيضاً تعني: "دابادا" بدقة وفعلاً، لأن الكاتب يستمد هذه الكلمة من فحوى الرواية... بل من صميم ذروتها؛ عندما يفقد البطل السيطرة المنطقيّة على اللغة فيشرع بما يشبه الهذيان المتدفق لسيل من الكلمات التي يجمع من بعض حروفها هذه الكلمة ليصرخ بها ويكررها، في محاولة منه لقول كل شيء دفقة واحدة"*6 حين قرأتها وجدتها قصيدة نثر طويلة مفتوحة على كل الأجناس، ويمكن أن أشبهها بقصيدة "عواء" لـ ألن غيسنبيرغ، أو عنوان مجموعة سركون بولص "الوصول إلى مدينة أين" أو رواية طه حامد الشبيب "اللا أين". وبتقطيعها تشبه عنونة المجموعة القصصية "روشيرو" لـ حسين رشيد.

هي مناطق بلا أمكنة ولها زمن، أي متاهات ومديات غير معلومة، يعني لا وجود للمكان عند مؤلفيها، اطلاقاً. أما الأمر يختلف في الرواية، فزمانياً، هي مفتوحة على زمن مغلق يدور في ذهنية المؤلف فقط. والمكان بين حياتين: "إن حبكة الرواية تحدث في فراغ يفصل بين زمانين، زماننا هذا، والزمان الذي سينسج برزخ من فراغ، وهو لا محالة متوقف، فأما النكوص الذي يؤدي الى التلاشي، وأما الزمان الجديد _ كعمل جديد _ الذي سيقودنا الى الولوج في الحياة الجديدة من خلل تلك الصرخة في الفراغ."*7 وأخيراً تبقى عنونة الرواية بمقاطعها الثلاث لغزاً، ربما لا يقبل التأويل، ولا يُطاوع الكشف عنه، بل سيبقى مضمراً أو مستوراً حتى حين: وقد كثرت التحليلات بشان المفتاح الذي سيفتح المستغلق "أما معناها، فهو أقرب ما يكون إلى معنى تعبير (إلى آخره) أو (الخ)، أو تكرار كلمة (كذا وكذا) أو (وهلم جرّا).. فهي تحاول وصف أشياء وأفعال متعددة في آن واحد. وهكذا فهمها حسن مطلك أيضاً حيث يقول:" نعم، ولكنها لا تعني هذا وحسب في الرواية، وهي تستخدم في المجتمع وربما يكون الاستخدام قريباً؛ فهي تأتي أيضاً عندما يحاول شخص ما أن يصف حادثة ثم لا يستطيع أن يكمل لشدة ما بهرته الحادثة ولشدة تأثره بها أو تأثيرها عليه، فيقول لك في النهاية: ودابادا... الخ"*8، وستظل لغزا عصياً للإدراك...

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش :

1- رواية، حسن مطلك، دار المدى، ط4 2016

2- د. محسن الرملي –تمهيد... محاولة تلخيص الرواية، دابادا، دار المدى، ط4

3-د.عبد الله إبراهيم "الاحتفاء برواية عراقية، صحيفة " القادسية" بتأريخ 12-8-1988 م، بغداد . وأعيد نشر المقال في مجلة " ألواح " العدد 11 سنة 2011 م ، مدريد .

4-العنوان في الشعر العراقي المعاصر، ضياء راضي الثامري، جامعة البصرة، كلية الآداب 13.

5-د.سوادي فرج مكلف، دراسة "نبوءة العراف في العنوان الفني، جامعة البصرة، كلية التربية، مجلة الأقلام، العدد السادس، ك1 سنة 2000 .

6-د.يوخنا ميرزا خامس، قراءة في عنوان رواية "دابادا"، سلخ للتراث وانتصار لحياة البرزخ .

7- كوكل، 11-8-2011

8-د.محسن الرملي، دابادا.. العنوان الصعب، مدونة حسن مطلك، 8-11-2011 .

https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=pfbid02zqtMgMHkDf1tVyYgucACiA3crdsQWC5iPWX79JsXW3NTaD9X24YLuzmSpgjHYQHfl&id=100005265301263

محسن الرملي وعدنان أبو أندلس، بغداد 2022

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

جزيل شكري وافر امتناني لصديقي الدكتور الأروع محسن الرملي لنشره دراستي في مدونة الراحل حسن مطلك،فألف الف مودة له...وافر تحاياي الخالصة.
الناقد عدنان أبو أندلس -العراق.<