جدلية الزمان والمكان في رسالتين إلى حسن مطلك
- قراءة تحليلية -
وديع العبيدي
شيء ما يشدّك هنا.. قوة جاذبية غير عادية.. تبدأ بالعنوان.. نبرة تحدي صارخ.. ليس التحدي الشخصي وانما التحدي الوجودي.. فـ(الوعد) لازمة تتعلق بالزمن أكثر من أي شيء آخر. دالة مرتبطة بالمستقبل (الغيبي). وهنا يتكامل الأفق الميتافيزيكي ليربط بين –لا ممكنين- ماضٍ منصرم، ومستقبل غير منظور. كلاهما يجتمعان في دالة واحدة!.. واحدة فقط، وهذا أهم ما في الموضوع، (الغياب)!.
غياب + غياب = (حضور)
مراهنة الكاتبة المبدعة الصعبة هي جمع الغيابين في نقطة - قيد التخلّق-، قوتها أنها هي التي تتكفل عملية التخلق.. هي المقتدرة على تحويل الغياب إلى حضور. ومنح الحضور مزيدا من البهاء والحيوية.
*
ورد صبيح وهي تكتب رسالة، توجهها إلى شخص آخر، لم تقل شيئا عنه، في سطورها الأولى، الفقرة الأولى، الثانية.. حتى الأخيرة. في السطر الأخير.. الأربع كلمات الأخيرة سوف تذكر الأسم. وبعد ذكر الأسم.. تسود حالة صمت (..). الصمت الذي يعقب المعادلات الصعبة، المعادلات القهرية التي يعجز عن حملها ابن الانسان. "ونحو الساعة السادسة، حلّ الظلام على الأرض كلّها حتى الساعة التاسعة، وأظلمت الشمس، وانشطر ستار الهيكل من الوسط."* فالغياب ظاهرة ميتافيزيكية أكثر منها لعبة وجودية يزعم البعض التحكم بها. الغياب الذي وصفه حسن مطلك بالحفرة في (دابادا)، الحفرة بمعنى فراغ، تقوم دعامته في (الغيب/ الما وراء). القادر على تحقيق صعقة كهرومغنتية تفصل بين فضاءين بستار العتمة. العتمة بمعنى العجز عن الرؤية، واستحالة التواصل. لحظة الصمت.. في نهاية المقطع، هي ما يعقب الغياب، وهي ما يسبق الغيب/ المقبل.
على غرار الأولى جاءت رسالتها الثانية. وبالتالي فأن القارئ يبقى مسكونا بالترقب والفضول لمعرفة المقصود بالرسالة. حديث متدفق من جانب واحد. الطرف الثاني (المخاطَب) لا توجد أية معلومات عنه. رغم الكناية الحميمة التي يحملها حرف (كاف الخطاب). والذي يمسّ القارئ من طرف خفي، باعتباره المعني بالرسالة قبل غيره. هكذا يتأجل اسم المخاطَب حتى السطر الأخير، الكلمات الأربعة الأخيرة من الرسالة. ثم يعقبها (صمت). ولا يغلق الستار.
عدم ذكر اسم (الغائب)، كناية عن احترام واجلال كما هي في تقاليد العهد القديم. ومساحة لتمثل الرّهبة والتواضع أمام رمز يحاط بالعظمة والتبجيل. ولكنه في المقابل يمكن أن يمثل إشارة إلى فقر الصلة أو شحة البيانات والذكريات الخاصة، بين طرفي الرسالة. لكن الكاتبة لم تترك فرصة لظهور هذا التساؤل، من خلال الحميمية الدافئة وانسيابية اللغة التي تفعم بها حواس القارئ. فمن خلال حالة (التخلي) التي افترضتها لكتابة رسالة عزيزة، منحت المكان حالة الامتلاء الكامل، بلغتها الشعورية المتدفقة وتلقائيتها الدافئة.
*
مادة الخطاب..
بدل التعريف بالمرسَل إليه، بدأت بالتعريف بنفسها، وهو أمر يملأ جزء من فضول القارئ ويزيده قربا من فحوى الرسالة. (أنا عراقية، عراقية مثلك، وُلدت عام 1980، ولحسن الحظ، أو لسوء حظي، كان عليّ أن أخرج من هناك وعمري سنتين فقط. ولكن هذا لم يُنسني حبي لوطني، ولا أن أنساكم..). عبر هذه الكلمات العفقوية البسيطة والقليلة، استطاعت الكاتبة تهريب معلومة كبيرة وحاسمة في النص، بسهولة تضارع حنكة حسن مطلك في تهريب الأفكار عبر فوضى اللغة. الأهمية تتعلق بغياب الكاتبة عن وطنها في سن مبكرة (سنتان فقط) قبل أن ترتسم ملامح الأمكنة والذكريات في ذاكرتها. ان (غيابها) هذا الخارج عن إرادتها، يضارع (غياب) حسن مطلك الخارج عن إرادته نوعا ما. وبالتالي، فقد وجدت في الاتصال أو التواصل مع ذاكرة (حسن مطلك) ما يسدّ جانبا من الغياب في حياتها الماضية. وإذ تضع صورة التعريف أو التقديم في بداية رسالتها الأولى، فانما تجمع بين غيابها - عن المكان- وغياب الراحل – عن الزمان- لتكون حصيلة المعادلة بين الطرفين، (حضور) في الزمان والمكان.
غياب + غياب = (حضور)
مراهنة الكاتبة المبدعة الصعبة هي جمع الغيابين في نقطة - قيد التخلّق-، قوتها أنها هي التي تتكفل عملية التخلق.. هي المقتدرة على تحويل الغياب إلى حضور. ومنح الحضور مزيدا من البهاء والحيوية.
*
ورد صبيح وهي تكتب رسالة، توجهها إلى شخص آخر، لم تقل شيئا عنه، في سطورها الأولى، الفقرة الأولى، الثانية.. حتى الأخيرة. في السطر الأخير.. الأربع كلمات الأخيرة سوف تذكر الأسم. وبعد ذكر الأسم.. تسود حالة صمت (..). الصمت الذي يعقب المعادلات الصعبة، المعادلات القهرية التي يعجز عن حملها ابن الانسان. "ونحو الساعة السادسة، حلّ الظلام على الأرض كلّها حتى الساعة التاسعة، وأظلمت الشمس، وانشطر ستار الهيكل من الوسط."* فالغياب ظاهرة ميتافيزيكية أكثر منها لعبة وجودية يزعم البعض التحكم بها. الغياب الذي وصفه حسن مطلك بالحفرة في (دابادا)، الحفرة بمعنى فراغ، تقوم دعامته في (الغيب/ الما وراء). القادر على تحقيق صعقة كهرومغنتية تفصل بين فضاءين بستار العتمة. العتمة بمعنى العجز عن الرؤية، واستحالة التواصل. لحظة الصمت.. في نهاية المقطع، هي ما يعقب الغياب، وهي ما يسبق الغيب/ المقبل.
على غرار الأولى جاءت رسالتها الثانية. وبالتالي فأن القارئ يبقى مسكونا بالترقب والفضول لمعرفة المقصود بالرسالة. حديث متدفق من جانب واحد. الطرف الثاني (المخاطَب) لا توجد أية معلومات عنه. رغم الكناية الحميمة التي يحملها حرف (كاف الخطاب). والذي يمسّ القارئ من طرف خفي، باعتباره المعني بالرسالة قبل غيره. هكذا يتأجل اسم المخاطَب حتى السطر الأخير، الكلمات الأربعة الأخيرة من الرسالة. ثم يعقبها (صمت). ولا يغلق الستار.
عدم ذكر اسم (الغائب)، كناية عن احترام واجلال كما هي في تقاليد العهد القديم. ومساحة لتمثل الرّهبة والتواضع أمام رمز يحاط بالعظمة والتبجيل. ولكنه في المقابل يمكن أن يمثل إشارة إلى فقر الصلة أو شحة البيانات والذكريات الخاصة، بين طرفي الرسالة. لكن الكاتبة لم تترك فرصة لظهور هذا التساؤل، من خلال الحميمية الدافئة وانسيابية اللغة التي تفعم بها حواس القارئ. فمن خلال حالة (التخلي) التي افترضتها لكتابة رسالة عزيزة، منحت المكان حالة الامتلاء الكامل، بلغتها الشعورية المتدفقة وتلقائيتها الدافئة.
*
مادة الخطاب..
بدل التعريف بالمرسَل إليه، بدأت بالتعريف بنفسها، وهو أمر يملأ جزء من فضول القارئ ويزيده قربا من فحوى الرسالة. (أنا عراقية، عراقية مثلك، وُلدت عام 1980، ولحسن الحظ، أو لسوء حظي، كان عليّ أن أخرج من هناك وعمري سنتين فقط. ولكن هذا لم يُنسني حبي لوطني، ولا أن أنساكم..). عبر هذه الكلمات العفقوية البسيطة والقليلة، استطاعت الكاتبة تهريب معلومة كبيرة وحاسمة في النص، بسهولة تضارع حنكة حسن مطلك في تهريب الأفكار عبر فوضى اللغة. الأهمية تتعلق بغياب الكاتبة عن وطنها في سن مبكرة (سنتان فقط) قبل أن ترتسم ملامح الأمكنة والذكريات في ذاكرتها. ان (غيابها) هذا الخارج عن إرادتها، يضارع (غياب) حسن مطلك الخارج عن إرادته نوعا ما. وبالتالي، فقد وجدت في الاتصال أو التواصل مع ذاكرة (حسن مطلك) ما يسدّ جانبا من الغياب في حياتها الماضية. وإذ تضع صورة التعريف أو التقديم في بداية رسالتها الأولى، فانما تجمع بين غيابها - عن المكان- وغياب الراحل – عن الزمان- لتكون حصيلة المعادلة بين الطرفين، (حضور) في الزمان والمكان.
غياب (مكان) + غياب (زمان) = (حضور) -زمكان-
أما التعريف بالمرسَل إليه، فقد استعاضت عنه بحديث مسهَب عن نظيره. لقد تعاملت الكاتبة مع لوركا بتعاطف كامل كما لو كان هو المقصود بالرسالة. ولو أمكن اعتماد فكرة التناسخ، سيمثل غارثيا لوركا، نسخة حسن مطلك المدريدية، فيما يمثل حسن مطلك، لوركا العراقي مع فاصلة ستة عقود من الزمن. وهي تبرر تركيزها المبالَغ فيه على لوركا بتلقائية بريئة.. (من الممكن أن يكون ذلك بسبب شغفي المستمر في متابعة أعمال لوركا، أو قد يكون بسبب علاقة والدي به، هل تعرف؟ إنه من المعجبين بلوركا.). لكن وراء هذا الزعم البرئ تكمن ضرورة ملحة، قد تغيب عن القارئ لأول وهلة، وهي أنها تكتب بلغة (اسبانية) غير لغتها أو لغة (حسن مطلك)، وأهل اسبانيا لا يعرفون الكثير عن حسن مطلك، لكنهم يعرفون (لوركا) جيدا. وهي استخدمت (لوركاهم) لتقريب صورة (مقصودها) العراقي إليهم، وذلك عبر المتقارَبات النصّية التي جمعت موتيهما أو مقتلهما الدراماتيكي، وهما في ذروة الشباب والعطاء. الكاتبة تحرق أشواطا سريعة في اختراق دائرة المتلقي الاسباني عبر التماهي الثقافي بين حضارتين. ولكن كيف يمكن لهكذا مقارنة أن تكون.. بين بيئة استقرار سياسي واقتصادي (اسبانيا) وبيئة قلقة ومضطربة سياسيا كالعراق؟..
لكي تنجح الكاتبة في مقاربتها، تدير عجلة الزمن إلى وراء، إلى تاريخ اسبانيا في الحرب الأهلية الطاحنة يومذاك، تلك الحرب التي علست شاعرية غارثيا لوركا وهو يتأهب للمغادرة إلى (باريس). يومها كانت طلقات الطيش أقرب إليه من الحلم. فالمقارنة هنا، بين بلدين وزمنين، لم يكن للانسان أو الشاعر اعتبار ما فيهما، حيث الاعتبار الأول والأكبر هو للعسكر. كان لوركا (جمهوريا) واثقا بالمستقبل، لكنه وقع صريع رصاص فرانكو الملكي. وكان حسن مطلك (مستقبليا) واثقا من خلاص العراق، لكنه راح ضحية استبداد الدكتاتورية. في الحالتين كان الرهان على المستقبل، وفي الحالتين كان المستقبل محكوما بالاعدام. وفي الحالة الثالثة يأتي رهان ورد صبيح على المستقبل: أعدك!. المستقبل الذي انتظر طويلا.. هل سيطول انتظاره في عيون (ورد)؟!..
*
استعارة المكان..
في الرسالة الأولى تم استعارة المكان الاسباني : غرناطة- أرض الأندلس، كناية عن المكان العراقي، واستعارة جيل 27 كناية عن الزمن العراقي، وشخصية لوركا كناية عن حسن مطلك. في الرسالة الثانية، ينمو المكان الميثولوجي، منتقلا من حالة ماضي بعيد (past participle) في بلد أجنبي إلى حالة مستقبل مفترَض في الوطن الأم. ففي الرسالة الثانية يكون المسرح هو أرض العراق، والمكان هو بيت العائلة التي انتظرت عودة حسن مطلك طويلا.. ها هي تستقبله في صورة حسن مطلك الجديد، الثالث، الحفيد، المقبل من كنه المستقبل. وبهذه الطريقة تحقق الكاتبة حالة الربط بين الماضي والمستقبل، بوضع دعامتين، تمهدان لعبور الحاضر نحو المستقبل. وما الحاضر هنا غير حسن مطلك.. الحاضر الغائب. الحاضر باستمرار مسلسل العنف والتصفيات في العراق، والحاضر بما يحمله من وعد وثقة بالمستقبل النابض في كتاباته المتواصلة الصدور بفضل وفاء شقيقه الأريب الشاعر والروائي الدكتور محسن الرملي. وبالتقاء نكهة الوعد في عنوان النص، مع وعد ولادة الحفيد، تكتمل رسالة الكاتبة وتحقق صداها الذي يتردّد في الطرف الآخر من الغياب/ الحضور.
*
تجديد فن (الرسائل) نصا أدبيا..
ان تألق الكاتبة ورد صبيح في ابداعها المتفرد على أكثر من صعيد لافت للانتباه، يزداد جدارة بنفحها الحياة في نمط (فن الرسائل) أو (المراسلات) الذي تجاوزه النص الحداثي، واعتبره كثيرون من مخلفات التراث البائد، فأعادته نصا نابضا بالحياة، لم تنحدر به إلى السرد القصصي، ولم تقع في فخ الشعرية، وانما احتفظت له بمقوماته، في لغة حديثة متدفقة بعيدة عن الاطناب والبديع التي اشتهر بها هذا النوع من الأدب. وحسبي ان هذه البادرة الجريئة تحسَب لها في باب التجديد والابداع العصري الذي يستحق إعادة النظر والاعتبار إليه. كما يمثل ايذانا بولادة كاتبة مبدعة مميزة، سيكون لها شأن بيّن.
..
مع خالص التحية لها ولروح حسن مطلك وعائلته الكريمة!..
لندن
الثالث من مايو 2009
----------------------------------------------
* نشرت الرسالة في موقع كتابات الالكتروني بتاريخ الثاني من مايو 2009.* انجيل لوقا 23 (44 ، 45).
----------------------------------------------
*نشرت هذه القراءة في موقع (كتابات) بتاريخ 5/5/2009م.