18جويليه/ يوليو/ تموز؛ في
مثل هذا اليوم أُعدِم الكاتب الكبير حسن مطلك، وفي هذه الذكرى الأليمة، وبعد
أن نترحم عليه جميعاً، يقدم لكم (بيت الخيال) هذه الحلقة، وهذه الشهادات من
أصدقائه وعائلته ومن القراء والكتاب الذين أحبوه.. عاش حسن.. عاش المبدع الفذ، وشكراً
لكل من شارك في هذه الحلقة من الكتاب والفنانين، الأساتذة: كريم شعلان، زهير
كريم، عبدالهادي سعدون، جبار الجنابي، إبراهيم فرغلي، مؤمن الوزان، علي ريسان، حسين
العنكود، هادي الحسيني ومحسن الرملي
شرعتُ في تسجيل حلقة من
برنامجي على اليوتيوب. كانت الحلقة عن الأديب الشهيد حسن مطلك Hassan Mutlakلتبث بمناسبة ذكرى إعدامه يوم 18جويلية يوليو 2025م.
أنهيت التسجيل وقمت
بمونتاج الحلقة، تحدثتُ قليلاً مع شقيق الفقيد: الصديق الروائي محسن الرملي
من مدريد. وشارك في الحلقة عدد كبير من المبدعين العرب... كانت حلقة عاطفية. أنا
أحب حسن مطلك الذي أعدمه، بلا رحمة صدام حسين، بتهمة المشاركة في انقلاب، لذلك؛ أنا
لا أغفر أبداً لصدام حسين، ومن يغفر لمن يقتل شاعراً ورساماً!؟
كان حسن مطلك كاتب
يوميات رهيب. خصصتُ له قسماً من كتابي النقدي (فن اليوميات) الذي أنهيته منذ أشهر.
كنت درَّسته أيضاً في جامعة تورنتو.
كان حسن مشروع كاتب عظيم
أعدمه طاغيةً وحرم العالم من صوته.
لكن هيهات ان يموت
الكاتب!
ها هو خالد، وها أنا أُنجز
برنامجاً عنه وأُحدث العالم عن أدبه... كانت روايته (دابادا) نصاً عجيباً، ولكن
حياة حسن كانت أكثر عجباً. كان ثائراً ورومنسياً حقيقياً، يحلم بتغيير شامل للواقع
السياسي والواقع الأدبي والواقع الفني والواقع النقدي.
يكتب كأنه يجترح العالم
لأول مرة. يُدرب الجُملة على ألا تكون مجرد جُملة، ويُدور الحرف لينحرف على الخطوط
المستقيمة، ليكتب أدباً مستقيلاً من تدوير الذي قيل.
(دابادا) رواية مُزعجة، إما أن تُحبها
أو تكرهها، إما أن تحضنها أو ترميها، وهكذا هو حسن مطلك.. قصووي في كل شيء، ولا
يتحدث الا لكي ينفذ، عنيد حد الذهاب رأساً، حاملاً رأسه بين يديه إلى المشنقة.
شاهدوا حلقة (لوركا
العراقي حسن مطلك) على قناة (بيت الخيال)، على هذا الرابط:
كنت انتهي من إعداد حلقة
خاصة من (بيت الخيال) على قناتي في اليوتيوب عن الكاتب العراقي حسن مطلك..
الكاتب الذي أعدمه صدام حسين شنقا سنة 1990 بتهمة المشاركة في محاولة لقلب نظام
الحكم. كنت أعد الحلقة لأعرضها يوم 18يوليو بمناسبة الذكري الخامسة والثلاثين لإعدامه،
عندما فتحت كتاب اعترافات تولستوي وأخذت أتصفح فصله الأول، لأقرأ هذه
الفقرة.. كأنما كان تولستوي يتابع ما كنتُ أفعل وأعد:
"وفي
أثناء إقامتي في باريس أظهر لي منظر إعدام أحد المجرمين ضعف اعتقادي الوهمي
بالتقدم. لأنني عندما رأيت رأس الرجل يطير عن جثته، وسمعت الصوت الذي أحدثه سقوط
رأسه وجثته في الصندوق المعد لهما، أدركت بكلية كياني، وليس بفكري فقط، أنه ما من
نظرية بحكمة جميع النظم الموضوعة، والعقائد المقررة القائلة بالتقدم والارتقاء،
تستطيع أن تبرر هذا العمل الفظيع وأدركت أيضاً في أعماق قلبي أنه، ولو أجمعت كلمة
كل أبناء الإنسان منذ الخليقة إلى الآن أن مثل هذا العمل ضروري للتقدم فإني أعرف
كل المعرفة، أنه غير ضروري، وأنه عمل رديء بذاته ولذلك يجب علي أن أحكم على ما هو
حق وضروري، ليس بما قاله الناس وفعلوه، ولا بما رتبوه من النظم للتقدم، بل بما
أشعر بصوابه في أعماق قلبي ."
ما قاله تولستوي طمأنني،
فلطالما خرج عليّ بعض الصداميين مبررين ما فعله بالشاعر والروائي كلما تحدثت عن
حسن مطلك. فصدام كسب شعبية مضاعفة عند الحشود عندما شنق ولكن هذه الحشود تُحلل
شنقه للآلاف بمن فيهم شاعر ورسام اسمه حسن مطلك.
تولستوي حسم الأمر معي؛
وأنه لا مُبرر لإعدام أي شخص مهما كان جرمه. حسن ليس مُجرماً وحتى لو شارك فعلاً
في تلك المحاولة للتغيير، فإن دافعه الأساسي ليس الوصول للحكم، بل غايته تغيير
وضعية الإنسان والبحث عن العدالة...كان حسن رومانسيًا
بالمعنى العميق للكلمة. كان يحلم كدون كيخوته بكل الطرق لاستعادة القيم الضائعة.
كان تولستوي في ذلك
الكتاب يعترف فعلا بأنه كان مزرياً وفاسقاً وكان قاتلاً وكان سيئاً، وانه ما جاء إلى
الكتابة إلا بحثاً عن المال والشهرة.
تجعلنا قراءة هذا الكتاب
في مأزق سؤال ثقيل: ماذا يعني أن نكتب سيرنا عربيا؟ ماذا يعني أن نكتب ذواتنا؟ هل
فعلا نحن مستعدون لذلك؟ مستعدون لذلك الاعتراف وحالة التجلي التي تحتاجها تلك
الكتابة؟ هل ونحن ندون يومياتنا نسجلها فعلا أم نُزوّرها لتترسخ في أذهاننا قبل
الآخرين كحقيقة بديلة عن المعاش؟ هل ونحن نكتب هذه اليوميات نفعل شيئا آخر، غير
إعدام ذلك الشخص الذي طار رأسه أمام تولستوي ليسقط في الصندوق؟!
مهما توهمنا أننا صادقين
في تسجيلنا لحيواتنا، يتسرب الكذب على شكل وهم. لا يمكننا صده.
أفكر جيدا في مفهوم
الإنسان نفسه فأجد الخيال، الكلمة الراقية المعادلة للكذب، يشكل جزءا مهما من
هويته. وهنا يأخذ مفهوم الصدق في الكتابة عن الذات معنى آخر، فلا تتشكل الذات
فعليا وبشكل صادق إلا من خلال التخييل، ذلك الكذب، فنحن أصدق عندما نكذب.. يا لهذه
المفارقة!
لقد توغل حسن مطلك في
التخييل حتى التماهي معه، لذلك هجم على طواحين الريح برمح مهشم وحصان هزيل. سقط
دون كيخوته في آخر الرواية قتيلاً وسقط حسن في النهاية قتيلاً.
مصير واحد للحالم ولرجل
الخيال.
كذلك سقط تولستوي آخر
حياته على سكة الحديد، هارباً من بيته ومن العالم كله.
عندما فكرتُ لماذا أهتم
بحسن مطلك منذ سنوات. صادفتني أيضاً عبارة لتولستوي قالها عندما مات دوستويفسكي:
"لم أرَ هذا الرجل قط، ولم تكن لي أي علاقة مباشرة معه، وفجأة عندما مات
أدركتُ أنه كان الرجل الأقرب والأعز والأكثر ضرورة بالنسبة لي ".
في قرية صغيرة، اكتشف
طفلٌ موهبته في الرسم، ورغم رفض مجتمعه، صار يعبر عن أفكاره بالقصص والرسوم
الساخرة. تمرد على محيطه وعلى السلطات، حتى أعدم وهو في التاسعة والعشرين من عمره.
هنا سيرة حسن مطلك،
الأديب والفنان، الذي قارع "البَطح الاجتماعي" والسُلطات بالفن
والكتابة.. والروح..
وُلد حسن مطلك عام 1961،
في قرية سديرة التابعة لقضاء الشرقاط شمالي العراق، لأسرة متدينة ومحافظة، في بيئة
لا تعرف الفن، ولا تقبله، وسرعان ما اصطدم بواقعه حين اكتشف موهبته الفنية مبكراً،
وهو في الصف الرابع الابتدائي، عندما كلّفه معلمه برسم لوحة عن "الراعي".
لم يرَ في المهمة واجباً
فقط، فانطلق إلى البراري يرسم الغنم بإبداع طفولي مدهش، فمنحه المعلم أول علبة
ألوان في حياته، ومن هناك كانت اللوحة الأولى.
رسم بكل ما توفر له من
أدوات، حتى حين حُرِم من الورق، راح يرسم على الجدران وأغلفة الكتب والأرض. واجه
رفضاً شديداً من أسرته ومجتمعه، لم يتراجع، بل أصرّ على طريق الفن، حتى أقام أول
معرض تشكيلي له وهو مراهق في إعدادية الشرقاط عام 1975، ونال عنه جوائز من مديرية
التربية.
التمرد يكمن في اللحظة
التي يكتشف الفنان فيها جمال الشيء، فينقله بأي أداة بصرية أم صوتية أم حركية، لا
بالصورة التي تسبق الاكتشاف، بل بالصورة التي تأتي بعده.
حسن مطلك رغب بدراسة
الفن أكاديمياً، لكن عائلته حالت دون ذلك، فالتحق بقسم علم النفس في جامعة الموصل
عام 1979، معتقداً أن هذا التخصص سيساعده في فهم النفس الإنسانية، وتعميق رؤيته
الفنية والأدبية. في الموصل تفتّحت مواهبه في الكتابة والرسم، وأقام معارض
كاريكاتير ساخرة وقاسية، وبدأ ينشر قصصه في الصحف المحلية، فظهرت لغته المختلفة،
وتمرده المبكر، وآمن دائماً أن "بالحلم يَتَجَدَّد كل شيء".
في الجامعة، أصدر مع
زملائه مجلة "المُربّي"، وكتب فيها نصوصاً أدبية ونقدية تعكس رؤاه في
الفن والتصوف والجمال، ووقّع رسوماته الكاريكاتيرية باسمٍ مقلوب ساخر "نسح
كلطم ناظور". كتب قصصاً، واشتغل بمشروعه الروائي الأول "دابادا"
سنوات، وأصدره لاحقاً في بيروت على نفقته الخاصة، بعد أن رفضت المؤسسات العراقية
نشره.
"أغار
على وطني.. الذي كُلما قارنتُ أدبه بآداب الشعوب اكتأبتُ.. ودفعني ذلك للقراءة
والكتابة.. وستبقى تلك الغيرة تنهشني حتى أحقق ما يحققه كاتبٌ عظيم لوطنه.. أو
أهلك دون هذا الأمر".
حسن مطلك
"قريبة
هي الساعة التي سأقول فيها لكل شيء: وداعاً"
عند تخرجه عام 1983،
سِيق إلى الخدمة العسكرية خلال الحرب العراقية الإيرانية، فعاش في الجبهات سنواتٍ
من القصف والموت والخذلان، ورفض عروضاً لتسهيل خدمته مقابل تمجيد النظام أو رسم
صورة للديكتاتور.
ظل صامداً ومتمرداً، حتى
اشترك عام 1990 في محاولة انقلابية ضد النظام الحاكم. فشل الانقلاب، واعتقلته
السلطات في 7 كانون الثاني 1990، وعذّبته أشهراً، ثم أعدمته شنقاً في محكمة الثورة
دون محاكمة عادلة، يوم 18 تموز عام 1990.
ترك أثراً بالغاً في
الأدب العراقي، رغم حياته القصيرة، بروحه القلقة، ولغته الفريدة، وتمرده الدائم
على السلطة والقوالب. بعد رحيله نشر شقيقه الأصغر، محسن الرملي، رواياته ومقالاته
وأعماله الفنية، لتبقى شاهدة على فنانٍ لم يخُن إيمانه بالجمال والحرية.
ولشدة توقه للحرية وشدة
حبه لوطنه، كُتب على شاهدة قبره، عباراته: "أغار على وطني… اشتقتُ إلى الحرية
من أجل الذود عن الحرية".
أنجَز الفنان العراقي الكبير خالد كاكي ست مقطوعات موسيقية رائعة،
استوحاها من رواية (دابادا) وسيرة صاحبها حسن مطلك، وهو بهذا الإنجاز يضيء
روحيهما، فحسن مطلك كان يقول بأنه يريد الوصول بالنص الأدبي إلى مستوى الموسيقى،
بحيث أنك كلما أعدت قراءته ستحس وتتفاعل معه مجدداً وبشكل مختلف، وحين نحت مفردة (دابادا)
من لب تفاعلات وإيقاعات النص، كان يروم الوصول إلى ما يسميه "ما وراء اللغة"،
الصمت والصراخ والموسيقى.
كثيرون من قُراء دابادا قالوا بأن إحساسهم بها يفوق فهمهم لها، ويُذكر
أن حسن مطلك كان يستمع كثيراً إلى شوبان وباخ أثناء كتابتها، وقد أشار إلى ذلك في
يومياته، ومعروف عمق ورُقيّ العلاقة بين فن الرواية والموسيقى وتداخلهما عند أغلب
الروائيين ومنهم كونديرا وموراكامي وماركيز وفوكنر وغيرهم.
قال الفنان خالد كاكي: "نورس على نهر دجلة"، هو عنوان هذا العمل
الموسيقي التعبيري التصويري الذي قمتُ بتأليفه وتنفيذه ضمن ألبوم (دابادا) الصادر في
بلجيكا على أهم المنصات الموسيقية العالمية أواخر عام 2024، وهي سلسلة أعمال مستلهَمة
من رواية الكاتب الشهيد حسن مطلك (لوركا العراق)، والتي تحمل عنوان (دابادا). أثناء
الانشغال بهذا العمل، خطرت في بالي فكرة تحويل بعض الروايات إلى ألبومات موسيقية،
وقد أكون الأول في هذا المجال. هذه محاولة جادة لمحاكاة روح العمل، ومحاولة للالتقاء
عن بعد بروح المبدع الراحل حسن مطلك ومراحل حياته. وقتاً مبدعاً".
وأضاف كاكي: "تنتمي هذه المجموعة الموسيقية، في روحها، إلى حقبة
الثمانينيات، ولأكثر من سبب. تجتمع فيها أوجاع جيل بأكمله خاض حروباً ومعارك،
وأضاع من عمره أجمل السنين على السواتر وفي الخنادق، وهذه المقطوعات أصلاَ مهداة
إلى روح الشهيد الروائي حسن مطلك (لوركا العراق) صاحب رواية دابادا الشهيرة، وقد
خصّصتُ هذا الألبوم كاملاً إلى روحه بعنوان (دابادا)، احتفاءً بتميزه وتعدد مواهبه
في الكتابة والرسم، وتكريماً أيضاً لجيل من شباب العراق الذين قدموا أعمارهم فداءً
للوطن."
وجاءت المقطوعات بعناوين: نورس على نهر دجلة، أوجاع، الطفل، القرية، ذكريات
والقلعة.
خالد كاكي من الوجوه
الثقافية العراقية المعاصرة، يجمع بين الشعر والرسم والموسيقى والتأليف القصصي.
ولد في مدينة كركوك عام 1971، وتخرّج من قسم اللغة الإسبانية بجامعة بغدادعام 1992، قبل أن ينتقل
إلى مدريد في منتصف التسعينيات، حيث استقر فيها وواصل اشتغاله بالفن والأدب.
برز أخيراً مشروعه
الجديد حول تأليف مقطوعات موسيقية، مستلهمة من أعمال أدبية روائية مهمة، بدأه
بألبوم "دابادا"، عن رواية الكاتب العراقي الراحل حسن مطلك، ويتضمن 6
مقطوعات موسيقية، تم إنتاجها وتوزيعها على أهم المنصّات العالمية عام 2024.
في هذا الحوار، نتوقف مع
خالد كاكي للتعرف أكثر على علاقة الموسيقى بالرواية، وتجربته في الموازنة بين
الفنون الثلاث، التي شكّلت عالمه الإبداعي: الكلمة، اللون، والصوت.
*ألبومك "دابادا" يجسّد رؤيتك
الفنية في تحويل أجواء الرواية إلى موسيقى، كيف بدأت الفكرة؟
ـــ "دابادا" هو عنوان
الرواية الوحيدة التي كتبها الروائي الشهيد حسن مطلك (1961-1990)، المعروف أيضاً
بـ"لوركا العراق"، لارتباطِ اسمَيْ كليهما بالإعدام ظلماً وفي عمر
مبكرة؛ كلمة نحتها الراحل لتكون سؤالاً محيّراً أكثر من كونها إجابة.
كان حسن كائناً شديد
الشفافية والقلق؛ كائناً إبداعياً من نوع فريد، ومثقفاً عميق الإحساس بما حوله.
كان مفرطاً في الولاء لحلمه بتغيير العالم نحو الأجمل والأكثر معنى، وهو الحلم
الذي سيكلفه حياته لاحقاً. هذا ما يبدو لي جلياً في كل كلمة كتبها، وفي سيرة حياته
القصيرة.
*لماذا اخترت رواية "دابادا"
تحديداً، وما الذي وجدته في نص يستحق أن يترجم موسيقياً؟
ـــ بشعورٍ عميق وصداقة
لم تتحقق بيني وبينه، وبسبب فرق العمر والظروف، وإحساسي بتقارب فريد بين روحينا،
قررت أن يكون ألبوم "دابادا"، تلك الموسيقى التي لم يؤلفها حسن مطلك، بل
قمت أنا بذلك بالنيابة عنه.
غير أنه رافقني روحياً
ونفسياً وفكرياً من خلال عمله الروائي الفريد، خلال أوقات انشغالي بموسيقى روايته،
فأصبحت أحاوره وأسمعه، وأقرؤه وأسأله ويسألني، ينصت إلى العمل الموسيقي، فيشذّب
جملة هنا، ونغمة هناك.
بكيت وأنا أتخيّله يعود
طفلاً إلى قريته "سديرة"، يلمس جدران الطين، ويشم القصب على ضفاف دجلة.
بكيت بشدّة، وألّفت مقطوعة بعنوان "الطفل"، وأخرى بعنوان "نورس على
دجلة". هكذا التقيت بالراحل، حاولت مخلصاً استحضار روحه، لتكون شاهدة على
صناعة موسيقى تصويرية ترافق أنفاسه، وهو يحصي أيام هذا العالم الماضي إلى الزوال.
*كيف تقترب من الرواية عند بدء العمل على
تحويلها إلى مقطوعة موسيقية؟ هل تقوم بقراءة النص أكثر من مرة، أم تركز على مشاهد
وشخصيات محددة؟
ـــ أنا أصلاً كاتب قصص
وشاعر، والموسيقى أداة أخرى أتعامل معها بنفس القدر من الإخلاص في التعبير، وهذه
خصلة قد لا تتوفر إلا نادراً في شخص واحد.
لا أقصد التفاخر، لكنها
معلومة أساسية لفهم سياق العمل الذي نتحدث عنه. الرواية منزل كبير وفخم، أتنقل
فيها بأفكاري وأحاسيسي لأصل إلى ما أراد كاتبها من خلال الموسيقى.
تبدأ مسألة التناول
بالمحاور الأساسية في العمل: المكان، الزمان، الشخوص، المراحل المهمة، البيئة التي
ولد العمل فيها، الثيمة الأساسية، كأن يكون القلق أو الألم أو الذكريات. كلها أمور
في غاية الأهمية بالنسبة لي عند محاولة التعبير عما أراد الكاتب نفسه التعبير عنه،
لهذا اخترت النهر والقرية والقلعة والطفل والذكريات والأوجاع، لتكون عناوين
للمقاطع.
*إنتاج موسيقى تعبيرية مستلهمة من الأدب ليس
أمراً مألوفاً في المشهد الفني العربي، ما هي أبرز التحديات التي واجهتك في
تنفيذه؟
ـــ منذ بداياتي في
الشعر والقصّة والتشكيل والموسيقى، عملت وحدي، والتحديات كانت نفسها دائماً، وكان
السؤال: كيف ومتى وأين أستطيع أن أصنع ما أريد صنعه، وأين أنشره أو أجعله في
متناول الجمهور؟
بخصوص الموسيقى، قبل
أعوام كنا نصدر ألبوماً على شكل قرص "سي دي"، لكن ذلك انتهى، وأصبحت
منصّات النشر الإلكتروني والمنابر، هي السوق والمصدر الأهم.
هناك
مفاهيم وتقاليد قديمة مهمة جداً تغيّرت. والتقنيات تغيرّت بدورها، وأصبح بإمكان أي
شخص أن يتحوّل إلى منتج موسيقي إذا أراد، لكن بالطبع شركات الإنتاج العالمية ما
زالت هي الطريق الأكثر ضماناً للترويج والنشر والتعريف بالمنجز.
*بعد ألبوم "دابادا" هل تخطط
للاستمرار بتحويل روايات عربية أخرى إلى ألبومات موسيقية؟
ـــ ثمة الكثير من
الأعمال الأدبية التي تستحق أن أتناولها موسيقياً. في الحقيقة، كنت أودّ أن تكون
روايتي الأولى التي أشتغل عليها منذ وقت طويل، هو العمل الذي أُصدر معه ألبوماً
موسيقياً، وهذه المرة الأولى التي أذكر فيها ذلك للصحافة، وهي فكرة أصيلة تراودني
منذ بداياتي في الكتابة.
ما أعنيه هو أن يُصدر
كاتب روائي عملاً يرافق كل فصل فيه مقطع موسيقي من تأليفه، يوازي النص أو يكون
خلفية له. لكن ظروفاً قاهرة منعتني من نشر روايتي، فقلت لا بأس أن يكون الاحتفاء
بعمل دابادا هو الأوّل من نوعه، هذا نصيب حسن، لعل روحه الخالدة تتقبل منا هذه
الهدية.
هل ترى في الموسيقى
وسيلة سرد موازية أو حتى بديلة عن الكتابة التقليدية في إيصال الفكرة والمشاعر؟
الكتابة والموسيقى
والرسم، كلها ثمار شجرة واحدة، وإن اختلف طعم أو لون أو شكل كل منها. بإمكان أدوات
التعبير أن تكون متعددة للوصول إلى الفكرة نفسها، والقلائل هم من يمتلكون أكثر من
وسيلة تعبير.
لكل
واحد أداة، ولكل فن خصوصياته وحيثياته. أحياناً نلجأ إلى الموسيقى لنعبّر عن أمر
ما، وأحياناً إلى الكتابة. في فن الغناء، اجتمع كلاهما، النص الشعري والموسيقى.
الناس غالباً يعتبرون
ذلك فناً واحداً وهو الغناء، لكن ينسون أن نصف الموضوع الغنائي وأساسه أحياناً
كثيرة، هو الكلمة. العلاقة إذاً موجودة منذ القِدم، لكن ما أطرحه أنا، هو صناعة نص
موسيقي يترجم الأدب إلى لغة الموسيقى. أما أن تكون بديلة، بالطبع فلا. أنا لا
أبحث عن بدائل، بل عن إثراء الواقع بصيغ تعبيرية مبتكرة.
*بالنظر إلى تجربتك المتعددة بين الشعر
والقصة والتشكيل والموسيقى، كيف يمكنك التوفيق بين هذه المسارات المختلفة؟
ـــ التنوّع ورطة كبيرة
ولا أنصح أحداً به. لكنه أبداً لم يكن خياراً بمعنى الخيار العقلاني أو
البراغماتي، بل كان سحراً لا أستطيع رفضه.
اخترت أن أتبع سحر
الأساليب وتعدّد الصنعات على حساب التخصّص. في النهاية، لا أنتظر الكثير من هذا
العالم، بقدر ما أريد إسعاد ذلك الطفل الذي كنته ذات يوم ووعدته بالكثير. أشعر
بالحرج من وعودي لنفسي الطفل عندما أتأخر في إصدار شيء جديد. ذلك أساس المشكلة لا
أكثر.
*بماذا تشتغل حالياً على مستوى الشعر والقصة
والموسيقى والتشكيل؟
ـــ أكثر ما يشغلني
بصراحة – أو ما قصّرت فيه مع نفسي- هو استكمال كتابة أكثر من رواية تركتها أنصافاً
وأرباع. حان الوقت للاشتغال عليها من جديد.
بالنسبة
للشعر، لدي أكثر من كتاب غير منشور، أخطّط لإصدار ما أستطيع منه. ولدي مشروع شعري
فريد في صيغته أوشك على إكماله. سيكون كتاباً مختلفاً حقاً في طريقة إصداره، وهذا
سرّ آخر أفشيه لكم.
أما بالنسبة للموسيقى،
فأنا أعمل على ألبوم جديد نشرت أول مقطوعة منه بعنوان "صلوات"، وهي
سلسلة أعمال تأملية وروحانية. وهذا أقصى ما يسمح به وقتي حالياً.
خالد كاكي: بدأ
مسيرته في سنّ مبكرة مع الرسم والخط العربي، بتأثير من شقيقه الفنان خليل كاكي.
كما كتب أولى قصائده في المرحلة الابتدائية، وصنع آلة موسيقية يدوية وهو في
الحادية عشرة.
أصدر عدداً من المجموعات
الشعرية باللغتين العربية والإسبانية، ومنها: "بلا حذر" (1998)،
و"هوامش الحارس" (2001)، و"رماد شجر الرمّان"
(2011).
شارك في معارض تشكيلية
في بلدان مختلفة، كما نال الجائزة الكبرى للشعر في مهرجان ليالي الشعر في رومانيا
عام 2012.
حسن مطلك: أعدمه
النظام العراقي السابق شنقاً في 18 يوليو 1990. خصّصت مجلة "ألواح"
الصادرة في إسبانيا عددها بالكامل عنه (300 صفحة). كما خصّصت صحف عراقية وعربية
عدّة أعداداً كاملة عنه، ومنها صحيفتي المدى والزمان العراقيتين. كما كُتبت الكثير
من الشهادات والدراسات حول أعماله.