محاولة لفهم.. دابادا
حميد صالح الشمرانلطالما قرأنا نصوصاً مشحونة بخيالات مجازية خطرة، استنطقت غير
العاقل وعبَّرت بذات الوقت عن معاناة الإنسان، لكنها أحياناً تمر مغلقة بتقنية
سحريةٍ هائلةٍ تضفي عليها سمة الفانتازيا، لتتخطى بذلك الاشتغال عين الرقيب، كما
في رواية (ثورة البهائم) للروسي نيكولاي الذي يعتبر أول من كتب في أدب
(الديستوبيا)، وبقصدٍ من المؤلف يخلط الخيال بالواقع ليدفع معناه إلى الباطن.
وربما لنزعة القلق التي تعنى بالمصير دوراً كبيراً حيث تجعل القيمة النقدية تتقلص
لما هو أقل من ذلك! ليتفادى الوقوع بالمحظور بالقدر الممكن. وما دمنا في صدد أدب
المسوخ وتجريد الإنسان من انسانيته فهناك رواية أخرى مشابهة من عدة نواحٍ وهذه
للألماني جورج أوريل (مزرعة الحيوان) والتي جاءت على غرار الأولى من الناحيتين
العنوان وفكرة المتن تقريباً.
أما (دابادا) هي أبرز أعمال الكاتب (حسن مطلك) الذي أُعدم شنقاً
سنة ١٩٩٠، وتعد واحدة من أهم الأصوات الأدبية في مرحلة الثمانينات، حيث إنها
استنطقت الصمت برمته.
وبحسب السيميائية للعنوان فأن أول عتبة لحسن مطلك قد تركها موضع
تساؤل وتأويل دائمين، إذ جاء بشكل مكثف جداً، حيث إنه تضامن مع مضمون المتن وظرف
المرحلة التي تحدث بشأنها المؤلف.
دابادا، ماذا تعني؟ ربما تعني العبء الأول على الإنسان حين
يحاول أن ينطق الحروف الأسهل تكويناً ولفظاً بوجه هذا العالم الملتهب بالصرخات.
وربما لها علاقة بالحركة الدادائية التي رفعت شعار (كل شيء لا شيء)، أو إنها تعني
الشيء الذي لا يمكن شرحه للآخر (تأتأة!) كيف له أن يثير التساؤل والتأويل والدهشة
والغرابة من العتبة الأولى ليمسك بالمتلقي من العنوان المرمّز وإلى النهاية
الجحيميّة لشاهين وقريته الراقدة تحت عيون الثعالب.
ومن الجانب اللغوي، نجد فيها انثيال لغوي مترادف ابتداءً من أول
كلمة وإلى آخر الفراغ الذي شملته الصرخة، فهي رواية تختلف عن الموروث الروائي
السائد آنذاك، لذا تعد تجربة مذهلة واشتغال متفرّد له معنيان من أول النص إلى
آخره، وهذا ينم عن دراية بالغة بالمخاطرة، مما جعلها تحسب على النصوص الجريئة التي
تحث النخبة قبل عامّة القراء، ففيها انزياحات وإيقاعات جمالية كبيرة مع كل جملة
وعلى طول النص لتشكل حدثاً لغوياً مبهراً يشي بأن الروائي الشهيد حسن مطلك كاتب
ملحمي قدم قضية إنسانية كبرى وسردية أدبية مرّغت بطلها الطفل شاهين بالطين والدغل
لتخلق له سبعة أرواح حتى يتمكن من الركض على طوال الرحلة المعذّبة.
وحين تسترسل بالفكرة وتبدأ تستوعب أنساق المضمر وتفكك خفاياه
برويّة ستعرف بأنه استطاع أن يحتال على الرقابة ليؤسس متناً معارضاً أخذ مديات
طويلة ليقول ما يحتاج أن يقوله مضطهداً دفعة واحدة! كانت صرخة حسيّة بريئة
وتلقائية تستيقظ فيها الأعشاب تحت نسائم الخوف، وتتدفق منها الأوجاع والسعادات
معاً على أنغام وئيدة تأخذك إلى حدود النوم، ثم تلحقها صرخة صادحة من صرخات مجتمع
القاع، يسمعها من نامَ في نهاية الفراغ لتتجلى أمامه متمثلة بالنهارات الشاقة
والليالي السوداء لتضع بين كفيه جواسيس لهم عيون الثعالب المفترسة ثم تملأ السماء
بالملامح الكونية الغاضبة منه!
يصنع الحدث في رواية دابادا بصورة مبكّرة بعد أن تترنح هاجر
لتلد طفلها شاهين الذي نطق قبيل الفجر وقال: (دابادا) لذلك قد تعني التلقائية
والسَجيَّة الأولى لبطل روايته شاهين اليتيم ذو السبعة وعشرون عاماً، الراكض وراء
الأرنب المبقّع، والذي لم يكن ركضاً اعتيادياً لقطع المسافات فقط أو من دون وجهة
بقدر ما جاء بمثابة محاولة جاهدة لرد ثأر والده (محمود) الذي ضاع في البراري وهو
يركض وراء الأرنب المبقّع! بعدها تنطلق هذه السردية المشحونة بالعصبية وبالمأساة
وبالضحك وبالوجع والجوع!
كان حسن مطلك منفصلاً عن لحظة وجوده العقلاني غير مدركٍ لما
يقول بالمعنى التطبيقي! لذلك تُعد راوية دابادا من النصوص الأدبية المهمة الدالة
على حجم معرفي هائل كونها جمعت بين الخيال والواقع والمجاز والرمز والأسطورة
والخرافة والفلسفة والنقد.
لذا فهي وقفة سردية للمطالبة بإرجاع الإنسانية، واعتراض صريح
ومدوي لنقد الحال القبلي والسياسي والديني والجنسي بغية تحريك الراكد والإحاطة بكل
مقدس له صلة أو تماس مع جوانب الواقع الإنساني المغيب في تلك المرحلة.
من الجنون أن يقدم حسن مطلك ادعاءً جريئاً مفاده: أنني مستعد
لكي أمر من تحت مقص الرقيب وأحبال المشانق! لقد صور لنا مشهداً نقدياً شمولياً لكل
التابوهات المتراكمة وبتعبير سريالي يتخلّق فيه بطل روايته شاهين من دون التخلّي
عن الجانب الفلسفي في استنطاق كلمات الطفولة المتواصلة والتي تخص بالقصد الاثر
الاجتماعي المنعكس على قرية شاهين من خلال التنديد بعيون (حلاب) الجاسوسة التي
تولّت إدارة سلطة القرية بعد مقتل المختار (عبد المجيد) بسم الفأر، ثم قالوا:
(افسحوا المجال لحلاب) حلاب يمثل عين الثعلب الشاسعة حسب ما يفهمه شاهين. وهذا ما
ركزت عليه الرواية.. الانقلاب السياسي والعرفي والقبلي الذي شنه حلاب على أهل قرية
شاهين.
وعلى إيقاع الحبكة السريالية المعظمة مُررت ذروة الإدراك
الانفعالي للمخيّلة التي يمتلكها (عواد الرسام) حينما رسم (الكلب شرار) على هيئة
لا تتوافق وطبيعة الوفاء للكلب! أن الكاتب هنا تمكن من إيصال المراد تبليغه
وبإساءة وافتضاح واضح لعيوب الزمان والسلطان اللذين بإمكانهما أن يغيرا من طباع
الحيوانات حتى، وبأسلوب حرفي لا غبار عليه.
قطعاً ليس كل ما هو مرمّز يبلغ مداه، بل يترتب على ذلك دور
الوعي لدى القارئ لتفكيك الدلالات الرمزية، وليس دائماً ينبش الرمز بقضايانا
المعاصرة، أحياناً يعتبر سرداً اعتيادياً وبعض القراءات الركيكة من تصنع له سمة
الخطاب النقدي المعارض لصلته بفضاءات توحي للطعن بالجهات، لذلك أعتقد بان رواية
دابادا جديرة لان تكون حاضرة على طاولة النقاشات الأكاديمية، كونها أحاطت بشكل
مباشر بالعابثين بقرية شاهين لتعري أفعالهم أمام العيان وفي وضح النهار.
وفي الأخير يمكننا القول: أن رواية حسن مطلك كانت ساخطة على
الساحة الأدبية لدرجة إنها تحتاج إلى قراءة ثانية لفهم أسطورية العتبة الأولى
بوصفها تحمل هماً ملحمياً معبراً يصف معاناة المجموعة أو الفرد بكلمة واحدة، كلمة
لخّصت لنا حياة شاهين وهاجر وعواد وعبد المجيد ومحمود وحلاب والكلاب والثعالب
والقرية والقبيلة والأرض والعشب والبرية والحقيقة والخدعة والأرانب المبقّعة التي
تلتهم من يتبعها!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت
في صحيفة (أوروك) العراقية، العدد 107 بتاريخ 4 حزيران 2024م.
https://www.facebook.com/photo/?fbid=765931605708537&set=a.405566451745056
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق