اِيييه يا حسن.. يا قيظ الروح الموغل في يباس أيامي
الدكتور حكمت الحلو
ها أنا ذا أتلمس
الذكريات ...
أفتح ثلاثين
نافذة على جرحي وبي شجن معتق مكتوم
فيجيء الفتون
على فتونه القديم
وينسل التذكار
مثل جسر الألم بين الموت والحياة
فما زال الشط
تثقله ظلمة طافية، وأنا أرقبه وهو يتفجر بنشيجه الدامي مذ ماتت كل الأحلام والرؤى
الصادقة، وغارت في طيش دجلة المتمرد...
اِييييييه يا حسن
وحدك أنت الذي
ما غيّبت لوعتي بك السنين، فما زلتُ عاكفاً على ذلك الرواء الظامئ
أترعُ من كأسه
الجريحة بقايا الذكريات الفاتنة
وومضات الوجد
التي ما زالت تتسيد عالمي المطرق بصمت ووجوم
بالأمس وقفت
على سطح (اسديرة)، فسحّ دمعي مع الشط المكفن بأرخبيل من الأغوار الطافية على ركام أوجاعي
الذاهلة وهي تستجدي سراجها وقنديلها وفنارها من عيوني.
أيها الطفل
الشاحب المطلُّ من ظلمتك المنيرة..
أيها العابث
بحثاً عن أسرار الخرافات والأساطير والقرابين وآلهة الموت والصولجانات
إلى أين مضيت؟؟
وأنا ما زلتُ بانتظارك.
أجلس على
الرصيف أقضم أظافري بانشداه وحيرة، مأخوذاً وأنت أمامي رهين الوحشة والهلع الكابي،
وهذا الشيء الأسود
الغامض يكبر ويتنامى بلا حدود في أعماقي، مثل وحشٍ ضارٍ ومخيف،
فأنزلق على وجه
النهر مثل جزيرة صغيرة من الطحالب والاشنات، وأنا أتذكر الدار الطينية ورائحة
الدفلى والزعتر والنعناع على ضفتيه...
أما روحي؟؟ فما
زالت مسربلة بك، ومطحونة بنعناع الموت.
ويوم جئتني ذات
ليل داهم موغل الكوابيس.. خِلتُكَ مخنوقاً، رغم قلادتك الكوكبية، التي كنت تضعها
على صدرك بازدهاء وانتشاء.
لقد كنتُ ألمحُ
محارها الجريح يتناثر بين شجيرات الغَرَب والعوسج والطرفا، مثل شظايا نيزك طائشة
كنتَ – يا جمرة
اشتعالي – منطفئاً.. كشيء قديم، يابساً مثل عشبة أرهقها أُوامُ ظالم، رغم أن قدميك
كانتا مغروستين في النهر.
وحين مددتَ يدك
إلى النجوم، غارت هي الأخرى، وانطفأت وعاد كفك يابساً محترقاً.
كنتَ يا حسن..
ثملاً فرط العياء، تستروح قليلاً، وتسترد أنفاسك، وأنت متشبثٌ بشيء مبهم، غامض،
لكنني كنتُ
أعرف ان الذي ألقى بك لتنبش في قاع المجهول، هو ضراوة الوجع الناغل حد اللعنة،
فرحتَ تندَسُ مثل شعلة تسبق أُوارها، كاشفاً عن بطش العذاب الذي يقتحمك بصمته
وغدره،
وعن ينبوع الدم
الساخن الذي يتفجر في رأسك..
اِيييييه يا
حسن
يا قيظ الروح الموغل
في يباس أيامي
يسألني عنك
البيت الطيني، والشاروك، وهمهمات النهر المخنوقة
وتسألني أعقاب
السجاير المبعثرة على رصيف الجامعة وتل قوينجق
تسألني دابادا،
وميّ، والرسائل، وبقايا الألوان التي جفت فرط الانتظار
تسألني نوارس
اورورا الباكية عن سر انطفاء القنديل الواعد
تسألني نجيمة
سحيقة البعد خابية الضياء
يسألني الوقت
الكئيب وهو يمر متثاقل الخطوات
تسألني جمرة
الوَلَه الخامد في أعماقي
ويلفني الصمت،
وتكتنفني الحيرة، ويخنقني عليك البكاء.
حكمت الحلو
18/9/1990
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشر الدكتور حكمت الحلو، هذا النص المرثية لصديقه حسن مطلك،
بتاريخ 17/7/2020 على صفحته في فيسبوك
https://www.facebook.com/photo?fbid=1403973716464175&set=a.163900043804888
ومن ردوده على تعليقات
القراء:
صديقنا حسن - كما تعلم - فريد المزايا والخصال، ويوم افتقدناه؛
عرفنا حجم خسارتنا فيه، رغم ما تركه فينا من عذوبة تتضوع كلما ذكرناه.
كان حسن أديباً مطبوعاً، مزدحماً بالكتابة وبكل فنون الابداع،
كان شعلة ضارية، انطفأت بصمت.
يرحم الله أخانا حسن، كان مبدعا بحق، مكتنزا ومكتظاً بالكتابة،
غير ان الموت أخذه منا، وهو في قمة عطاءه.
رحم الله حسن وأكرم نزله. كان بحق، يملك قلب طفل بريء، يملك
من المشاعر الجياشة ما يفوق الوصف، فضلاً عن دماثة خلقه ونبله، أما إبداعه،
فالحديث عنه يطول، كان يقرأ بنهم وشغف، وحينما يكتب، كان يسوّد بياض الورق بما
يشبه السحر، كان غرائبياً يعجن الفن بالأدب والفلسفة والسياسة وكل ألوان المعرفة
بطريقة عجيبة، رحل عنا مبكرا رحمه الله.
لم يكن حسن، بالنسبة لي، زميلاً عابراً أو صديقاً رمته الأقدار
مصادفة، أو بفعل ظروف آنية محضة، بل كان صنوي وخلّ روحي، وبعض وجداني، وما ان
عرفته، حتى تلبسني هاجس غامض مُقلق عليه، كثيراً ما كاشفته به، ألا هو خوفي عليه،
دون أن أعرف لهذا الهاجس سبباً أو مبرراً.. وهذا ما وقع!! كان حسن مشروعاً إبداعياً
كبيراً، وبصمة واعدة بحق، انبثق مثل نجمة وامضة متوهجة.. وانطفأ مثل نيزك محترق..
وجعي عليه كبير يا صاحبي!