العراقي حسن مطلك عائداً في «الكتابة وقوفاً»
بيروت
ـــ "الحياة"
«الكتابة وقوفا- تأملات في فن الرواية» كتاب
صدر عن دار مداد في دبي، ويضم مقالات للكاتب العراقي الراحل حسن مطلك جمعها وقدم
لها الكاتب والأكاديمي محسن الرملي. والمقالات غاية في الأهمية نظراً الى مرجعيتها
النقدية وعمقها الثقافي والمعرفي وبعضها لم يتسن للكاتب ان ينهيها. ومن عناوينها:
الوعي بالكتابة، الأسئلة الروائية ، المكان في الرواية، مشكلات الزمن في النص،
الشخصية والراوي، الشكل، القراءة، الواقعي والخيالي، الواقعية المطلقة، قوة الأدب:
مشروع بحث عن أدب جديد...
وجاء في المقدمة الشاملة التي كتبها شقيقه محسن الرملي والتي تعد خير
مرجع لقراءة تجربة مطلك: «هذا هو حسن مطلك، لا تكفي عبارة: كاتب جاد أو كاتب حقيقي
لوصفه... لأن الكتابة بالنسبة إليه هي فعل حياة كالتنفس، ومعنى وجودي لا يمكن فصله
عن حياته ذاتها(...). لم أعرف مثل حسن مطلك كاتباً يُكثر من تمزيق وإعادة كتابة وخلق
نصوصه، دائب التفكير والعمل فيها بلا كَلل ولا مَلل. كان كُله، بمجمله مع كل
نصوصه، بمثابة ورشة حقيقية متحركة، يتحدث عن نصوصه ونصوص غيره كما يتحدث عن نفسه،
يأخذ مقاطع من نصوص سابقة له ليدمجها في نصوص لاحقة، يترك الكتابة عن فكرة في
منتصف الكتابة واعداً بالعودة إليها وينتقل للكتابة عن أفكار أخرى... وهكذا. من
هنا تأتي صعوبة تحرير المخطوطات التي تركها غير منتهية، وتنتابنا الحيرة في أي من
الصيغ العديدة سنعتمد! وعليه فقد تركنا بعض المقاطع المكررة على حالها في أكثر من
سياق. يضع لنفسه مخططاً يعدله أكثر من مرة ويتنقل بالكتابة لفقرات من هذا المخطط،
ففَصَّل ببعضها كقضيتي (الزمان) و (المكان) وأخرى وضع فقرات منها، فيما دوّن
ملاحظات متفرقة عن أخرى، كما أنه لا يقوم بالتنصيص ووضع المراجع لبعض المقولات
دائماً، لأنه يكتبها من ذاكرته كونها صارت جزءاً من تفكيره، عدا أنه غير ملزم بذلك
مادام لا يقصد كتابة بحث أكاديمي بقدر ما يهمة التركيز على الإجابة عن الأسئلة
التي تؤرقه».
بدأ حسن مطلك بكتابة هذا الكتاب في تموز(يوليو) 1988 حال انتهائه من
روايته (دابادا)، أي حين كان عمره 27 سنة ولم ينهه، لأن حياته قد انتهت بعد عامين
تماماً، فقد تم إعدامه شنقاً في 18 تموز1990، وبلا شك فإن تجربته في كتابة
(دابادا)، والتي أعادها خمس مرات، هي التي دفعته لإعادة فتح الأسئلة المتعلقة
بالأدب عموماً وبالرواية على وجه الخصوص؛ «إنني أتوخى أن أصل إلى علم للرواية من
خلال فهم تفاصيلها. متى وكيف ولماذا عليّ أن أستخدم هذه الجُملة وقياساً إلى أي
زمن؟ … لأن فهم العملية الزمنية بشقها الموضوعي هو أحد أسرار الرواية». فكان يدوّن
أفكاره ويقرأ ويعيد تدوين ويناقش أفكار غيره، بالتوازي مع مواصلته كتابة نصوصه
اللاحقة ومنها روايته (قوة الضحك في أورا). لم يكن يشغله أمر النشر بقدر ما كان
يشغله الصدق مع النفس ومع الكتابة.
كل ما أنجزه حسن مطلك من كتابة، كان على مدى عشرة أعوام فقط، من 1980
وإلى 1990، وأثناء تدوينه هذا الكتاب، خلال العامين الأخيرين من حياته، كان قلقاً
حيال العَشرة أعوام القادمة، مهموماً بميدانه الذي هو الأدب وهو يرى التطورات
المتسارعة في الميادين الأخرى وبخاصة العلمية، فيقول: «... فماذا أعددنا (نحن)
لعام 2000 بالضبط؟». وأنا بدوري عادة ما أتساءل: ترى ما الذي كان سينجزه حسن مطلك
لو أنه عاش عشرة أعوام أخرى؟
يبدو ما دونه هنا بمثابة مدخل لما كان يأمل التأسيس له، والذي كان
يحدثنا عنه كثيراً ويطلق عليه مصطلح (الواقعية المُطلَقَة) حيث نجد، في نهاية هذا
الكتاب، شروعاً لدخوله إلى هذا الطرح فيعلن عما سماه: «مشروع لبيان فردي ضد مناهج
القرن التاسع عشر الأدبية». وحتماً إنه كان يعني بطرحه وانشغالاته الرواية الجادة
والحداثوية العالية فنياً وفكرياً، وليست الروايات السائدة الآن التي تضع كل همها
في الحكاية من دون اعتبارات مهمة للجوانب الفنية والفكرية بحيث صارت في أسلوبها
تقترب من لغة الحكي اليومي ولا تختلف عن بعضها كثيراً فيه، ولا عن اللغة الصحافية
التقليدية.
يُسمي حسن مطلك ما قام به هنا: «تأملات» عن وعي وإدراك، فيقول: «إني
لأرجو أن تكون تأملاتي قابلة للدحض، مع ذلك لن أرفض التأييد». وهي تأملات تستحق
منا تأملها بكل جدية وطرحها للنقاش، ومن سمات التأمل إعادة تقليب الفكرة على وجوه
عدة، تغيير التسميات، تعزيز الشك وحتى تجريب الوقوع في التناقض أحياناً. إن هذا
النص يشبه الاستماع إلى حسن مطلك وهو يفكر بصوت عالٍ، كما يمكن قراءته كنص أدبي
بحد ذاته والتمتع به وبلغته من هذا الباب، نص روائي يسرد حكاية وصراع وتفكير داخل
جمجمة كاتب روائي، ويمنح فرصة الاطلاع والتلصص على ما يدور في رأسه، ننفذ من خلاله
إلى أعماق تفكير شخصيته الرئيسية التي هي شخصية كاتب اسمه حسن مطلك. إنها (رواية
تفكير) مدوَّنة بكل صدقها وقلقها وعمقها، بلغة أدبية وبتقنية يتطابق شكلها مع
مضمونها.(...).
انطلق حسن مطلك في كتابه هذا من طرحه على نفسه جملة من الأسئلة
المباشرة، دَوّنها على النحو التالي: «ما هي الكتابة النثرية؟ لماذا نكتب؟ مَن هو
الكاتب الحقيقي؟ ما هو النص؟ ما هو النص المزدوج؟ ما جدوى الكتابة الأدبية؟ كيف
يمكن الربط الإدراكي بين الحياة في النص والحياة كما هي؟ لمن نكتُب؟ من القارئ؟ ما
الـــقراءة؟». ثم وصـــف ما تلاها بأنه «مشروع إجابة عن الأسئلة» ابتدأها بوضع
عناوين أفكار وخطوط عريضة أو ما سماها «تكوين مفاهيم خاصة» (...).
---------------------------------------
*نشرت في صحيفة (الحياة) بتاريخ 13/10/2017 العدد 19915 بيروت