قراءة تأويلية مغايرة لـ(دابادا)
سما العبيدي
لازالت رواية (دابادا) للكاتب العراقي الراحل حسن مطلك، تشبه اللغز بالنسبة
للكثيرين، وهذه من سمات الأعمال الأدبية الفريدة القابلة لتعدد القراءات
والتأويلات، وها أنا هنا، أحاول، مثل غيري، ممن بهرتهم هذه الرواية، أن أجتهد
وأطرح قراءتي التأويلية المغايرة لها، بشكل مكثف ومباشر، قدر الإمكان، وما هذه
القراءة في النهاية، إلا وجهة نظر أخرى في هذا العمل الأدبي المدهش والمحير في
الوقت نفسه.
عنوانها: دا با دا (داء الروح الفرد أو دائرة الروح الرداء) دائماً.
با (باب) با: في الكتب الدينية هي روح حرة، كانت توصف بالصقر الذي يرتفع في
السماء عند وفاة الشخص (وهنا نذكر بأن اسم إحدى أبرز شخصيات الرواية هو شاهين، وهو
اسم للصقر، والذي يعرف أحياناً بالصقر الجوال)، أو أن هذه الروح بهيئة حشرة، وأيضاً
في المعتقدات المصرية كانت تمثل الروح المرتبطة بجسد الإنسان ويمكنها الرجوع إليه.
أي أن الكاتب قد أشار إلى الروح كباب للولوج إلى مكنونات نفس الإنسان ، وأيضا
أن الجسد البشري، هو داء الروح دائماً، وقد أشار إلى ذلك بمقطعين في الرواية.
إن رواية (دابادا) هي رواية رمزية معقدة، تدعوا قارئها إلى التريث في كل
جملة، وفي تقديري إنها تنتمي إلى أدب (الديستوبيا) مما يجعل منها رواية مخيفة
للقارئ الذي فهم ما أشار له الكاتب وما دعى إليه في بعض نصوصه... ودابادا هي عبارة
عن حلقة تتكون من عدة نقاط، وكل منها تمثل نقطة انطلاق للحدث الذي يليه، لذلك نجد أكثر
من مرة تكراراً للحدث مع اختلاف في جملة واحدة فقط قبل الحدث. كما استعان الكاتب
برموز كثيرة، وكل رمز يشير إلى شيء معين.. قد يكون شخصية سياسية أو رمز ديني أو
عدة ذوات مجتمعة في شخص واحد، ومن هذه الرموز، مثلاً:
*شخصية محمود: وتمثل هذه الشخصية؛ بطل الرواية، وهي عدة شخصيات في ذات واحدة، وقد أشارة
لها الكاتب في جملة (أن هاجر شهدت جميع تحولاته) ويعني بها تمثل هذه الشخصية البطل،
الذي قضى على جميع خرافات البشر، بحثاً عن الخلود، فنرى شخصية محمود تارة وقد ضاع
في البراري بسبب ملاحقته للأرنب المبقع، بحثاً عن الخلود، وتارة أخرى أن يوم
ولادته شهدت القرية أحداثاً و أنباء سارّة، وفي هذا مشابهة لقصة النبي موسى وكيف تم
انتشاله من النهر عندما وضع في سلة، كما أن زواج محمود من هاجر، يذكر بقصة زواج
النبي إبراهيم من هاجر... وبتتابع التأويل فإن شخصية محمود ستحيلنا إلى شخصية
النبي محمد، واسم محمود هو أحد أسماءه.. لذا فإن قتل محمود للأرنب البري المبقع،
معناه أنه قد قضى على الخرافة وهو الوحيد الذي نجح في تحويل البشرية من الخرافة إلى
دين التوحيد.
*شخصية شاهين: ابن محمود، هي خليفة لشخصية محمود التي تبحث عن الخلود، لكنه لا يرغب
بالخلود، لأنه قد تحرر، حسب وصف الكاتب، بالخروج من الغلاف بعد أن شبهه بفرخ ينقر داخل
الغلاف، لذلك نشاهد أن شخصية شاهين تمر بعدة تحولات، أبرزها التأمل والعزلة والصمت
وهي بهذا تمثل بوذا، وكان شاهين يتأمل تحت شجرة التين التي تعتبر شجرة مقدسة لدى
معتنقي هذه الديانة، كما يمثل الأرنب البري نفسه بكل سماته.
*الأرنب البري المبقع: يمثل هذا الحيوان دور الرسول الذي كلفه إله (القمر)، بحمل الرسالة ذات
الشأن الخطير إلى بنو البشر لإعلامهم بسر خلود الإنسان حتى يبعث من جديد بعد موته،
كحال القمر نفسه، الذي يموت ثم يُبعث من جديد، حسب الخرافات القديمة، وأن قتل
محمود للأرنب هي عقوبة له لأنه حرف فحوى الرسالة إلى (كما أُفنى إلى الأبد عندما أموت،
فأنتم كذلك ستموتون وتفنون إلى الأبد)، لذلك عاقبه القمر بأن رمى على الأرنب عصا
اصابت شفته، والتي صرنا نراها بهذا الشق الواضح.. ثم ولى الأرنب مسرعا فرماه القمر
بالعصا أيضاً، لذلك يجري بسرعة كبيرة، وهو بدوره قد رمى القمر أيضاً قبل أن يهرب فخدش
وجه القمر، وهكذا صرنا نرى هذه الخدوش في وجه القمر، عند رؤيته متكاملاً. وعندما
علم أهل القرية بأن الأرنب سلبهم سر الخلود، غضبوا عليه، لهذا فإن الصبي اذا بلغ
سن النضوج واتخذ مكانه بين الرجال، يمنع من أكل لحمه ومن استخدام النار التي يطهى
عليه لحمه ويُبعد عن القرية.......
إن المغزى من ذكر الأرنب المبقع في الرواية، هو أن كل فرد في القرية، هو
رسول خائن، والضحية محمود لأنه ركض خلف الأرنب، بحثاً عن الخلود المسلوب وقتل
الرسول الذي خان أمانة الإله، وأن صفة (المبقع) هي ليست نوع الأرنب وانما التغير
الذي يطرأ على فراء الأرنب في فصل الخريف، وهذه إشارة إلى أن أهل القرية نصبوا
الفخ لمحمود للتخلص منه، لأنهم على علم تام بأن الأرانب يقل نشاطها في هذا الفصل، علما
بأن نشاط الأرنب يبدأ من الفجر حتى المساء، وهو مطابق تماماً لما ذكر في الرواية.
*الحمار: شخصية
رمزية، جاسوس مطيع لحاكم معين أو لشخصية سياسية تملك زمام الأمور، لأن للحمار قدرة
على حفظ طريق العودة ذهاباً وإياباً بلا مرشد. ومحاولة قتل الحمار هي دعوة صريحة
لإزالة القاعدة الأساسية للهرم الذي بنى عليها الحاكم قواه، فبقتله ستتهاوى سلطته
ويفنى وحده، لأن الحمار له القدرة على حمل الأثقال، وهذا ما حاول الكاتب الإشارة إليه
بهذا الرمز.
*يوم الأربعاء: اليوم المقدس لأصحاب الديانة الإيزيدية، وفيه إشارة إلى تعذيب شخصية
معينة والاحتفال بانتصار قوتهم على الضعيف.
*خرير ماء البئر وكل أنواع الأصوات التي ذكرت: هي رموز تشير إلى الديانة البوذية التي تعتمد على
التلقين.
*شجرة السدرة: هي شجرة مقدسة لدى المسلمين وثمة حديث نبوي يشير إلى قدسية هذه الشجرة، وبأن
أعمال الخلق بخيرها وشرها، ستعلق عليها وتعرض على الإله يوم القيامة، لذلك أجتثها
شاهين لأن لا فائدة من كل الأعمال.
*حلاب: شخصية
سياسية، هي المهيمنة والمسيطرة على الوضع وتملك الضوء وحدها، فيما يعيش الآخرون في
ظلام، إشارة إلى عمى التفكير وعدم معرفة أهل القرية لما يجري حولهم، لأنهم يعيشون
في ظلام دامس.
*المسمار: هو رمز
لأشد وسائل التعذيب وأبشعها، وهو إشارة إلى الحاكم آنذاك، والذي يستخدمها كوسيلة
لصلب العبيد بها، ويزهو بانتصاراته، لذلك اقترن هذا الرمز بقصص تعذيب كثيرة، كان أبطالها
مسامير، وأشهرها قصة صلب المسيح، ودق مسمامير في كفيه لتثبيته على الصليب.
*الثور: شخصية
ضعيفة لا قوة لها سوى حجمها الذي لا يغني عن شيء، يظن أهل القرية بأنه سيحميهم إن داهمهم
الخطر.
*الختان: إشارة إلى
طقوس الديانة اليهودية التي تعتمد على التشهير بالأعمال وتمسكهم بالوصايا في أسفار
التوراة.
*أخرى: في رأيي أيضاً، أن القطة إشارة إلى حرب قادمة، والكلب شرار رسول خائن.. وهكذا ثمة شخصيات أخرى تستحق التوقف عندها وتأملها، وقد فعلت ذلك مع نفسي
أثناء القراءة، ودونت ملاحظات، لم أحبذ إرفاقها هنا، وآثرت تركها لتأمل القارئ،
ومنها على سبيل المثال: شخصيات عزيزة وعواد وصابر وعبدالمجيد وعالية ومسعود وغيرها...
أما أهم الرسائل المضمنة في هذه الرواية، كما أعتقد، فهي:
1ـــ أن داء الروح هو الجسد الذي يحتويها وليس العكس.
2ـــ كل الأديان
زائلة، ولن يتبقى منها سوى آثار معابدها وطقوس لا تمت للدين بأية صلة.. بل هي
صناعة بشرية.
3ـــ ان
الطبيعة لن تولد شيئاً جديداً لأنها تفتقر القدرة على الانتصاب.. أي أنها لا تحتوي على روح.
4ـــ لا يملك
الإنسان (الرجل) سوى صوت الضحك ولا يملك الإنسان (المرأة) سوى صوت حفيف الرداء.
5ـــ إن هذه
الحياة مهزلة وان نقطة بدايتها ونهايتها واحدة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*مراجع:الفلكلور
في العهد القديم/ الرسالة المحرمة، جيمس فرايزر/ الغصن الذهبي، الفصول: 5 و9 و18
و26 و28 و58/موسوعة ميثولوجيا وأساطير الشعوب، حسن نعمة/موسوعة الأساطير والرموز
الفرعونية، روبير جاك تيبو/الويكيبيديا.
**سما العبيدي: كاتبة من العراق.