01‏/09‏/2014

حسن مطلك وحسين سليمان والدهشة السردية / سوزان سامي جميل


حسن وحسين يتناوبان في خلق الدهشة السردية الطازجة
سوزان سامي جميل
حينما اكملت من الصفحات ثلاثين من رواية  (دابادا) للروائي العراقي حسن مطلك، شرد ذهني بعيداً صوب روايتَي (صدى الزور البعيد) و(ينزلون من الرحبة) للروائي السوري حسين سليمان واللتين قرأتهما العام الماضي. إنتابني الشعور ذاته وأنا أدخل في صميم الشخصيات التي رسمها كلاهما بتقنية وحبكة عالية نقلتني الى عوالم من الدهشة الطازجة لم أكن أنتظرها حتى أنني ظننتُ لبعض الوقت بأنهما لربما اجتمعا ليكتبا هذه الروايات معا.
الحياة عند حسن وحسين تتشكل وفق رؤىً تصرخ بهدوء وتنعطف بصورة حادة لاغية كل الطرق القديمة والمملة في السرد، ففي كل زاوية حيّة من تكوين الشخصيات تعيش تشكيلة جديدة من ردود أفعال غريبة مفعمة بالغرائز الانسانية المشروعة والقفزات المنظورة وفق أسس قوية لتراجيديا ساخرة أو كوميديا جادة. كلاهما يحرك روح السرد بالاتجاه الذي يفرضه العمل وبتلقائية غامضة وهبتها الروح الفلسفية عند الاثنين.
الفارق الوحيد وقد يكون واضحا عند بعض القراء هو أن حسن يعطي من شِعره لمفرداته التي تتراقص بفصاحة عالية وباسترسال متناغم يعكس اهتمامه بسيادة الصور الشعرية كما أنه يسكن لزمن أطول داخل روح الشخصيات ويشتتها ثم يجمعها في إطار أدبي كامل، بينما حسين يستخدم لغة فنية فلسفية عالية ويتنقل بحرية ولأزمان قصيرة ومسرعة بين شخصية وأخرى معتمدا في ذلك على قوة الشعور والتداخل بين الماضي والمستقبل، وأعتقد أن السبب في ذلك هو ميل حسن وغوصه المبكر في تفاصيل الأدب وخاصة الشعر بينما حسين يميل وبزاوية حادة تجاه فن فلسفة العلوم وعلم النفس وتركيزه على التكوين النفسي لشخصياته، لذلك انعكست ميولهما بوضوح وانتشار على روح التفاعل بين الشخصيات والأحداث وليس هذا فحسب وإنما عملت هذه الميول على اضفاء روح التفرد والخصوصية لقلميهما رغم التشابه الكبير في روح الطرح.
الذي يشدني ويعزز ثقتي باسلوب حسن وحسين هو التفنن الفطري الذي يضفي على كتاباتهما صورا تشكيلية بألوان معتمة في الغالب لكنها غير يائسة وإنما جادة وواثقة، كذلك يجذبني فيهما اعتمادهما الكلي على الصقل النهائي الذي توصلت اليه أقلامهما الروائية بالاستفادة من تجارب الآخرين الفنية في الأدب، نعم كلاهما يمتلك قلما روائيا يختلف ويتشابه مع الثاني في وقت واحد، فقدرة حسن على تركيب المرحلة الزمنية والخوض في المواقف لتحديد أمكنة المفاجأة وفغر الأفواه أوالخذلان والاحباط هي نفسها التي يمتلكها حسين كما أن تقنية المحارب التي يمتلكها كلاهما في القدرة على الدخول والخروج من السرد في الزمن الذي يخدم التسلسل أو التجزئة لا تختلف عند كليهما ثم أن كليهما لايقيدان الشخصيات بصفات فيزيائية محددة وإنما يتركان للقارئ الحرية في اختيار ملامح وصور الشخوص حسب ما تمليه عليه مخيلته وبذلك يختلف كل قارئ في وجوه الشخصيات التي شكلها في ذهنه. الأجواء عند كليهما دوما صاخبة بهدوء، فالصخب له وقع نفسي ملتزم ومتناسق تماما مع انسياب الأحداث أو تعثرها في المشهد الواحد كما أن الحدث يقف على عتبة السرد منتظراً أن يقوم بدورهِ دون تدخل قسري من خطة مسبقة وانما تأتي محض اندفاع في خيال فجائي للروائي.
إن التشابه الكبير والعميق في طريقة السرد الروائي وروح الفن القابعة بين السطور يجبز للقارئ أن يتخيل بأن هذه الروايات قد كُتبت بفكرهما المشترك وقلمهما المشترك. ليست المسألة هي تشابه سطحي في الشخصيات وتصرفاتها وإنما في طريقة تفكير الشخوص وظهورهم على مسرح الرواية وتفاعلهم مع الأحداث بحسية عالية وفريدة، إضافة إلى التماهي في خلاص الحدث من التكرار والحشو إلا فيما يخدم العمل الفني ليسوقه إلى أبعاد أكثر فاعلية وعمق.
هنا بعض الفقرات من صدى الزور البعيد لحسين سليمان:
((خليل الساير هدّهُ الطريق، جذب عقله وأضنى جسدهُ ولم ينهِ نصف المسافة بعد، فمازال أمامه الكثير، أحشَّ أن أقدامه تنزُّ وتتورم حتى أن ساقي بنطاله العصملي أخذت بدورها تتمدد وتتلوى، تنحصر تحت ثقل العظام وتنخنق من اللحم المنتبج.))
((ولدقائق تنسى فيها العوم، تظن نفسك واقفا على الضفة اليسرى تحدق الى الضفة الثانية، الى العلوة والجوبة.))
((وانتقلت فجأة وهي تجسُّ المياه النابضة براحتها الى خبء ذاكرة انحجب في الاروقة الخلفية وأجهدت عقلها كي تظفر بما مر بها واقشعر فيها ففتحت دون وعي حجرات أغلقتها منذ أمد.))
أما هذه الفقرات فهي من دابادا لحسن مطلك:
((أسند رأسه إلى الحائط البارد فسمع عبر الملاط زحوف الذاريات وأصوات النجدة والدعوة إلى الشاي فاللبن المختبئ..دبيباً أو شبيهاً بالاستنساخ، فلجأ إلى تفحص ثور بشري تبرز خصيتاه بوضوح دافعة مثلث السروال لأن يتكلم بصوت مخدوش ويهتز ملاطفا الأصلع السمين، أو السمين الأصلع نفسه ، ثم يأخذ لحظة الإجازة ليقرأ رد الفعل في الوجوه و .. يبتسم.. ﻳﺒﺘﺴﻤﻮن مباركين المزاح. يقول: استمر. يضرب كفه بقوة ومرونة على الصلعة: يوه، ماذا فعلت؟ يقول أحدهم: استمر ويضحكون. هناك فتحات خاصة بالضحك. للإنسان فتحات أثيرة إحداها للضحك وكلهم طيبون تحت اللافتة لأجل تمشية الوقت يصفع أحدهم الآخر ثم يضحكون معاً، وأحياناً يضحكون سوية.))
--------------------------
*نشرت في (الحوار المتمدن) بتاريخ 19/8/2014م
سوزان سامي جميل

ليست هناك تعليقات: