07‏/09‏/2012

إنه الإنقلاب يا حسن مطلك / عبدالله الزهري

 
إنه الإنقلاب يا حسن !
 
عبدالله الزهري ــــــ مدونة (أكِنَّة)

الحنق.. الحنق على الأقل، الشعور الأوليّ وربما الذي يتخلل القارئ أثناء الغوص عند حسن مُطلك. والإنقلاب النفسي والذهني على الأقل، هو خلاصة ما يتحصل في روح وعقل الداخل هذه البوابة. ما خلف ذلك هو الصراخ والتدحرج والانشطار لا لطلب الغوث أو اللعب، ولكن لهذه الانفجارات المكتومة في سطور هذه الأوراق. اعتراني ما يشبه الخَبال ثم الصفو ومررتُ بحالات مصالحة الحالة والعمق الذي يكتبه حسن لأفهم البكاء من الموت، واستراق الضوء المنثور لا بتشريحه عبر مجرة عقل مصفدة بل بالانزلاق في صفاءات هذه التجربة الإنسانية الخالدة، لأنها تجربة كل إنسان وكل روح جائعة، هكذا تنقشع أجنحة البكاء لنقفز في حديقة الحياة كما نتقلب في حديقة الموت. شُنق حسن مُطلك في بداية التسعينات الميلادية بتهمة الإنقلاب على نظام الحكم، إنه لم يكن إنقلاباً واحداً تُحشر  فيه الروح عند القصبة الهوائية ثم تُنزع مروراً برؤيتها مجريات الإعدام ووجوه الملائكة والجلاد ومعانقاتها للحبال المنقضة على الرقبة، لكنها إنقلابات أخرى تفوق هذه النهاية الموائمة لإنقلابات النص في حوائط وتجوايف حسن مُطلك. إنه الموت يا حسن.. إنه الإنقلاب.
الحنق، لماذا؟، يدخل القارئ يفتش عن قصة وعن شعور. المراد ليس إثبات نجاح الروائي هنا، كان حسن أبعد أن يكون روائياً كما نفهم الروائي، إنه الإنقلاب على الرواية وعلى المَحكيات. نجد القصة مختبأة في تدفق من الإيحاء والقطع والتهميش. في " دابادا" يمكن أن تُقر بضعف الكاتب لأنه لم يقدم حلقات من الإغراء ولذة خاتمة المشهد. المشهد غير مكتمل، لم يُرد حسن أن يكتب مشاهد فاتنة تستحضر قسوة ما أو حنين ما أو حضور ما، على الرغم أن حالات التصوير لديه ظهرت في غاية الإشعاع والنضوج والتمكن. في البدء تيقنتُ أنه يُسطر أشياءً تخصه أكثر، فهو يرغب في تفجيرها عبر خطوط اللغة الثرية، والثرية حقاً، ثم تيقنتُ أنه في صالح القارئ أن يتجرأ في استكمال النص وردم المخفيات والفجوات التي طغت في لغة حسن. يمكن أن تعش قصة مثلاً في استحضاره للطفل الكبير " شاهين"، "شاهين" البطل الذي ليس هو البطل، فقط الحالة هي البطلة، الفعل المُسيطر على حسن ليحكي شطراً من تلك الحوادث. كان بكاءً ونحيباً وشيئاً من فقد الوجود واستحضاره، كانت الصفحات الأولى مسالمة عشقتها، في الفجر التالي شعرتُ بيديّ حسن تنبتُ في قلبي، ومددتُ له يداً. كنتُ افتش عمن "يفش خلئي "، ويَبثني أنا، فيمن أنا، فيمن هو، كأننا أنا. قلتُ: القراءة في " دابادا" يحتمل أن تعتمد كثيراً على فهم اللغة لدى مطلك، يجدي بل أعتقد هكذا أراد، أن تتحول القراءة مرات كثيرة إلى تخمين يستجدي الفهم، أو يصبح موحي بالفهم، المعنى الفعلي في كثير من التصاوير والمقاطع هو شارد ومنقضي في نفس كاتبه، لا يجدر بنا ولا نقدر على استيقاظه وضبطه إلا عبر قراءة واعية مُعادة بذات نَفس الكتابة، إلا بقراءة متوترة ذكية. الشرود.. الشرود والإنقلاب. ثم في أجزاء متقدمة من "دابادا" يستفيق القارئ على لاوعيه وقد أخذ في النهوض والعمل والإجراءات الغريبة، وهكذا أعتقد أنه ربما ابتغى لنا في هذا الإنقلاب أن نقدم مزيداً من الاحترام للعقل الباطن، اللاواعي، فكأني مرات عديدة احمل عقلي اللاواعي لأجعله القارئ الأول بين هذا النص الملّتف وبين عقلي الواعي، كالبلورة تستشف وتنخل تلك الإيحاءات. حينها يمكن أن أفهم الإبدال، إبدال كل مفردة شائكة، منزوية بغرائبيتها وربما هلاميتها وبساطتها بالمفردة المندسة خلفها. كالجنون.. وكالحياة وكالتلامس المقصود في انبعاثات حائرة وغريبة يا حسن. كيف يمتد النص ليكن خللاً في أي نص روائي، وكيف يمتد النص هنا ليمثل الإنقلاب، في أولى صفحات "دابادا": " بيوت تحد بيوت، وبيوت تهب سطوحها كأفنية لبيوت أعلى. أما البيوت الأخيرة فإنها مصدات لرياح شباط وملاذات للأبقار خلف أبواب الصفيح المُسندة بألواح مسمارية مُستخرجة من منحدر التل الأسود حيث ينمو الفِطر في أكواب الآشوريين بعدما تمر عليها الدواب وقد عادت من التلال الجرداء بينما تحتفل الضفادع استعداداً لهجر السُبات ويتهيأ الزيزان بعد ثلاثة شهور للغناء في هشيم الحصاد، ثم عيدان الشقائق الميتة- شقائق الكلاب التي تترك نُدباً بعدما يلمسها الرعاة". إن الإيحاء الذي يعصفني وأنا اطبع هذا الجزء هو درجة مبهمة بين النحيب والبكاء تعكس مبهمات الغربة في انقطاعات الحكاية والبناء عند حسن مطلك. نعم، إنها تصاوير وتشبيهات ولغة متدفقة ثرية وحميمية جداً، لكنها في سياق النص تعني أشياءً أخرى.
في المشهد لا يقف المشهد بذاته، من الغباء الذي فهمت أن أحاول ضبط المشهد، النص البديع هنا يُنشأ لك المشهد لتراه من خلف زجاجة بلورية غائمة الرؤية وحائمة، بالفعل وكأن أحدهم يصف لك مشهداً وأنت مُطْرح على مسافة من التماس النوم الكامل واليقظة التامة. المشهد يظهر في صورة حلم أصابك. استيقظُ في منتصف الليل أكرر تلك الأسطر، أشعر أن المشهد لم يُقرأ بل كان حلماً، كثافة خلق المشهد وتكرار جزئياته أصابتني بما يشبه الخلط، عندها رغبة ما تجذبني ناحية الإنبعاد عن هذه الفوضى. خاصة ذلك المشهد، حين يستطلع "شاهين"  مجريات الأشياء من حوله، من النافذة، التل في الأعلى، العوائق، الجص، الحمام، الساهمون في الأسفل، الرجال والنساء، بيت حلاب في المدى، حفيف مقدم أمه، النهر.. كنتُ كأني اتقلب كرائد فضاء في فراغ غرفة "شاهين". جلب الطفولة هو المشهد الأشد حرارة في العمل. ومع ذلك فحسن لا يرغب أبداً أن يبرر المشهد أو انفعالات النص بالمشهد، أنت لست موعودا بفضاء وحركية تتمناها هنا، لكنك موعود بأن تخضع لقوانين كيفيته في التدوين التي اختارها. اختيارك أن تقرأ لحسن مُطلك أن تغيب عن المشهد مهما ساهم أن يلوّنه عندك. شعرتُ مرات بنزعة العلو في تخليه في أن يبرر المشهد، يصح أن نتحسس ذلك الحاجز في التعليل الواقعي للحدث، لأن الإنطباع هو الدهشة الدائمة في كل القراءة. المخاض العسير في أولى صفحات "دابادا" ليس سوى دهشة يكاد لا يعرف أن يستل القارئ منها نفسه، يبقى غريقاً في ذلك الكون الطفولي لـ" شاهين"، العزلة التي امتطته بمرضه وعلته، أحدث هذا الإنطواء شكلاً بدهياً وساذجاً في ذائقة ومفهومية الطفل/النص البريئة الهشة، طفولة لعشرين عاماً من العزلة والانفراد بالنظر والتحليل والمراقبة والتفسير.  سيجد القارئ نفسه في صور صِدامية تعترك فيها ما يمكن فكّه بالرمزية والواقعية المتفجرة، فيما يصعب فهمه إلا بإعادة القراءة مرة أخرى. في "قوة الضحك في أُورا" حيث المكان لا مكان والحدث الرئيسي ليس واحداً، بل ربما كل مقطوعة تعني بذاتها حدثاً رئيسياً يقوم عليه العمل، فـ "أُورا" ذاتها :"وقعت من السماء عبر السحب الخضراء المتجلدة على رأس أحد صيادي الأسماك". أيُّ مكان هذا يا حسن؟!. ولمّا خرجت من "دابادا" إلى "قوة الضحك في أُورا" شعرتُ لحظات بتنفس من إنغلاق بياض النص في "دابادا" وكأنها إنفراجة من دوامة "دابادا" ولكني واصلت رحلة في ذات العوالم: النهر: الدغل: التلة: النباتات والطيور بأسمائها المتعددة والعجيبة والوجوه.
ما فوق اللغة، هكذا، أجزم أن حسن أراد أن يكتب بدون لغة، أو بشيء فوق اللغة، حيث هناك مساحة خارجة عن اللغة تتواصل به أجرام هذه العقول والأرواح. شيء كالطاقة الضائعة فيما بيننا من مساحات. العقل الباطن وبالحدس والظن والحقيقة والصور الجائرة العذبة المتكررة يجتذبك المقطع القادم من العمل. هكذا هو يحكي في عمق هذه الشعوذة اللغوية عن اللغة في دابادا: " تأتي صور أخرى، صرخة بلا حبور. وتذهب خيوط لغة: هذا القيد شكل الرداء حالة البشر-..". ينجح صوت الإنقلاب والإنعتاق من كتابة رواية معقولة على حسن نفسه، فكأنه لا يملك ما يكتبه حين يزج بإسمه في وسط حالة من النشوة التعبيرية، ليقل إنه لا يعرف حتى هذه الشخصيات : " مجرد انطباع سريع عن عالية، لأن المرأة تعني جميع الناس وفق مفهوم الأدب، مفهوم السيد حسن مطلك أو السيد هيرمان هيسة أو غيرهما"، وفي صفحة أخرى: " أقول إنه انطباع وفق طريقة؛ املأ الفراغات التالية..،لكي تصير هذه الرواية أكبر حجماً. لأنني لا أعرف محموداً معرفة دقيقة كما لا أعرف شاهيناً ولا عالية ولا هاجر ولا عواداً.. لا أعرف أي واحد منهم تقريباً".. حسن لا يعرف نفسه فيما يكتب!. وهو يدفعك مرات في الدهشة والاستغراق في النص لمحاولة فهمه، يدفعك في خلاصة أي كلمة أي سطر أي بارقة من الرسم والتلوين والتصوير. كالموت في "قوة الضحك في أُورا": يرى عري السيدة أوليفير فيتذكر أجساد النساء الميتات. زرقة حبال الدم في سيقانهن. حين يغادر النَفَس يبدأ الشعر بالتساقط حالاً، ويكتمل الجمال ثم يتلاشى... يقترب الجسد من صورة الجلال الكامل في الذهن. الجسد الذي يلتوي بعد الطعنة." لغة الموتى الشيقة الرشيقة. وما فوق اللغة أيضاً هو ألا تقبض على الصوت الذي يقحمك في الحكاية، فالراوي يكون مرة أشخاصاً مجتمعين، ومرةً هو ديام في "قوة الضحك في أُورا" ومرة هو موجة ٌما تطوف مشهداً يُبعث هكذا. وكما هو مُنبعدٌ عن الشخوص ليحرر النص، فهو أيضاً كل هذه الشخوص بكيفية ما، ففي توطئة "قوة الضحك في أُورا" يقول: ".. فوضعتُ حملاً بوزن الجبل على رأس المُفترض (ديّام) الذي هو أنا، كيف أُنكر؟ وآدم هو أنا، وأليفير هو أنا... وكلهم، فريق من شخوصي لازموني ليلاً ونهاراً، أيقظوني من نومي لأكتب، ولكن لمن؟.. لا أدري.". مارس أيضاً الهالة عند الحدث، فتلك اللغة التصويرية الملتصقة بشخصية ما كـ "عزيزة" مثلاً، تحضر في هالتها ليُدرك القارئ أن هذه الهالة اللغوية التصويرية تعني "عزيزة"، هي في المشهد أو ترغب أن تحضر للمشهد بعد عدد من السطور، هو لا يفضل أن يخبرك أنها هنا، عليك أنت أن تفهم هذا لوحدك، عليك أن تفهم الإشعاع في اللغة والإلماح. القصة مكتملة وشهية، لكنها تبدو خلاف ذلك، بل تشبه الفوضى والإشكال والاشتباه لتكن القصة معدومة ومفقودة عند القارئ، فالإجادة تتخلق في الطاقة الذهنية المتماسكة لملمة الخيوط والخروج بالوعي من رحم اللاوعي بالقصة.
إذاً؛ يتطلب الأمر البطء، لأن المقتنص للقصة سيجد أن هناك طفلاً مريضاً خجولاً وأباً مفقوداً وأماً محرومة، وسيجد طاغية وأخوين يفضلان اصطياد الخنازير على كل المتع الأخرى، وهناك أيضاً الباحث المستشرق عن الآثار وسط مملكة آشور، وحمار اسمه (قندس)، وثوراً. وامرأة تريد أن تتملك رجلاً، ورجلاً يشتهي أن يرسم امرأةً، وأحلام مغلفة بالغبرة تسكن صغيرات، يتطلب البطء لنعي الرابط بين كل تلك الأجزاء من القصة التي فتكت بها اللغة المطلكية. البطء، إذاً الصبر حتى نحصل على قوة الضحك من أثر الخمر الحزين في هذا الشعر: " يتبدل الوجه لحظة اللمس.. إلى وجهين ينافسان بعضهما في الحضور، يسكبان بلا مقدمات حلمية، دفقة من الشعور الهائل فيما يخص قوة الشيء ونسيان الزمن. قوة الضحك بعد الحصول على... شرود يشبه التبخر. يذهب الكلام، تذهب الأماني الصغيرة في الحصول على... ويبدأ الاستغراق. فلا أتاكد من وعيي حين أتاكد من وجودي حتى أحاصره بكفي. اقبّل الظل.. شيئاً عزيزاً". وفي هذه الأوعية الدافقة من الشعر الذي يعلوه الحزن، حزن التجربة الإنسانية في ضعفها وخلو هذا العالم من اكتمالها، التجربة الإنسانية في تسلطتها وظلمها وبشاعتها، فنجد في "دابادا" تلك الفلاشات ناحية فساد هذا العالم في حروبه وسرقاته ودماره، فلاشات متكررة تعكس أيضاً غربة القرية والمروية العراقية. حزنٌ بمعنى الحياة كما وجدناه بمعنى الانتصار والموت والضحك، الضحك المشهد الأخير من "دابادا" حين يضحك "شاهين" على اكتشاف مضحك فتضحك القرية ولا تدري لم تضحك. حملت الروايتن ما يشبه الجنون وفقد القدرة على الإلمام، لكنها حقاً نقلة أخرى كبيرة تحتاج للبطء والصبر لتندرج ضمن الرف الذهني في بناء الرواية العربية لدى القارئ. باعتبارها رواية إنقلاباً على الرواية. ما أجمل هذا العالم يا حسن!، قد كنتُ في خوف من هذييّ حتى قبضت بيدك كجنة  في هذا النعيم في أعظم تشكيلاته ومذاهبه. ذهب حسن إلى ربه مبكراً، تاركاً لنا تجربة لمّا تُقرأ جيدا حتى الآن، على الرغم أنه ترك لنا ضوء لفهم وسبر هذه المروية والقصة من خلال هذا اللقاء الذي فكّ فيه كثيراً من الدوامات وفوضى النص، وفسره، وأنا أدعو إلى نشره كفصل أخير في "دابادا" لأنه من حق القارئ الجديد على هذه التجرية أن يتحصل على بعض الاطمئنان والإيضاح.
أخيراً؛ في طيات هذا الكتاب العراقي الحزين والحكاية العراقية يحكي لنا شقيقه الأديب محسن مطلك الرملي عن اعتقاله وإعدامه، فيقول :
" لقد اعتقلوا حسن صبيحة يوم 7/1/1990 في قرية (صبيح) عندما كان متوجهاً إلى مدرستها حيث كان مديراً. لم يقاوم لأنه لم يكن يحمل معه إلا الكتب والقلم وحين أصعدوه في سيارة (اللاندكروز) كان يلوح للقريبين من أهل القرية وطلابه مودعاً. دام اعتقاله ستة أشهر في الشعبة الخامسة من مديرية الأمن العامة، لم يسمح خلالها لنا بالسؤال عنه أو زيارته.. لقد عشنا أياماً مروعة ومريرة، وبعد التقصي من قبل عوائل المعتقلين الآخرين عرفنا اليوم والساعة التي ستتم فيها محاكمتهم في محكمة (الثورة) المعروفة بلا عدالتها وبخلوها من المحامين والقانون ووحشية قراراتها اللا مسؤولة، فذهبنا عدد من العوائل لنرابط هناك خلف الأشجار خفية على طريق يؤدي إلى المحكمة علنا نحظى برؤيتهم من نافذة سيارة أو في حوض شاحنة.. ولكننا لم نر إلا رتلاً من السيارات العسكرية والمدنية ومدرعات محملة بالعساكر وطائرة مروحية تحوم في السماء. طافت في ذهني لحظتها أمنيات أن أكون بطلاً من أبطال الأفلام الأمريكية الذي ينقذ من يشاء بقدرته العجيبة على التحارب. نظر إلى أخي الكبير واحتضنني باكياً بعد أن مر الرتل.. شعرت بالغصة تغرقني وبسواد العالم من حولي وبقهر مميت يهتكني.. ثم وقعت مغشياً عليّ. وقد وصف محمود جنداري تلك اللحظات من داخلها في قصته (وليمة الدم) بالقول:( من أين يأتي الكلام يا حيّ وأنت دخلت بي عصر الرصاصة وغادرت عصر الكلمة/ لا تقل أن الكلمة الحق اختفت/ موجودة/ لكن أين الكلام؟ ومن أين يأتي؟/ تراصف معي وتعال لنتطلع من كوة واحدة/ لترى كيف ينبعث الموت من هذه المائة شئ/ كيف تتبدد الرهبة ويفيض الإحساس بالخوف اللذين يتوفران فيك بكميات كبيرة/ الخوف والرهبة اللذين شعرنا بهما بشكل حقيقي ونحن في الطريق إلى المحكمة في تلك السيارات المغلقة/ تحف بها سيارات أخرى، مصفحة ودبابات وطائرات مروحية/ سبعة وعشرون رجلاً لا يعرف أحدنا الآخر/ لكننا نعرف أننا نساق إلى المحكمة).ص136من مجموعته(مصاطب الآلهة)دار أزمنة/الأردن1996.
لقد كانت النماذج المفضلة من الشهداء في تصور حسن مطلك، هم: سقراط، الحسين(ع)، المسيح(ع) وجيفارا... ولكل من أنواع شهادة هؤلاء رؤية ومفهوماً عنده.
.. قيل: أن حسن مطلك كان يتحدث معهم (رفاقه في المعتقل) عبر أنابيب الماء الفارغة التي كانت تربط بين زنزاناتهم. كان يقويهم ويقص عليهم الطرائف(النكات) كي يبتسموا بعد وجبات التعذيب.
.. وقيل: أن حسن قد اعترف في التحقيق صراحة برغبته في تغيير النظام وبيّن الأسباب وكان طليق اللسان وكأنه مسروراً بالحرية في أن يقول ما يريد أمام قاتليه لأنه كان متأكداً من إعدامه.
.. وقيل: أن صاحبه آواة كان يقول: أقوالي لكم هي ما يقوله حسن مطلك. دون أن يعرف ما قاله حسن في التحقيق.
.. وقيل: أن حسن قد أصر على التصحيح اللغوي لنص إفادته في المحكمة وقرار الحكم.
لقد أعدموه شنقاً لأنه مدني بينما أعدموا العسكريين من رفاقه بالرصاص ولم يسلموا جثثهم إلى أهلهم إلا بعد أن دفعوا ثمن الرصاصات التي قتلوهم بها، كما لم يسلموا بعض الجثث لأنهم شوهوها.
قالت زوجة حسن التي رأته في التابوت: لقد حاولت إيقاظه لأنه كان.. وكأنه نائم ووجه مفعماً بالرضى. منعت علينا السلطات إقامة مأتم له وحذرت الناس من تعزيتنا فيه. فكان أهل القرية يتقاطرون علينا سراً، في الليل، كي يعزوننا. ومن ذلك أيضاً أن ما يقارب العشرة أطفال ممن ولدوا بعد إعدامه قد حملوا اسم (حسن) كنوع من المحبة والاعتزاز والذكرى..
ترى هل قلتُ كل ما أعرفه، وما أريد، وما أستطيع، وما يجب قوله عن حسن مطلك؟؟. بالتأكيد: كلا. فسوف أبقى نازفاً عليه وعنه دمعاً وحزناً وحبراً ما حيـيت.
ولأن حسن مطلك هو أروع روح عرفتها شخصياً من بين جميع الأرواح التي عرفتها وقطفها عزرائيل لذلك غالباً ما يحضرني وصف صديقه أردال له في قصيدة عنه. حيث يشعر بما أشعر فوصفه بـ(زهرة عزرائيل).. لقد بكينا حينها بمرارة(بكينا أكثر من كل أطفال العالم) كما يقول حسن مطلك في صـرخـته (دابادا).
.. بكينا في البيت والقرية وكركوك والموصل وبغداد والبصرة.
.. بكينا في الشمال والجنوب والوسط .
.. بكينا في كل العراق على حسن مطلك وعلى الشهداء وعلى العراق..
.. ومازلنا نـبكيهم في مغترباتنا. "
وهنا يتحدث محسن بروحه محلّقة عن الغياب والموت وحسن في دمعة تموت من جديد:

-------------------------------------------
*نشرت في مدونة (أكِنَّة) لصاحبها عبدالله الزهري، بتاريخ 6/9/2012م
على هذا الرابط:

ليست هناك تعليقات: