الانقلاب المستحيل على
صدام
.. واعدام الروائي حسن مطلك
للشاعر الدكتور أحمد الدوسري
صدر كتاب "مستحيل الكتابة او 120% ذاكرة" عن مركز
الحضارة العربية 2003
وفي الكتاب فصل بعنوان "أسرار العرض العسكري الذي نجا منه
صدام باعجوبة"، نقرأ للمرة الاولى تفصيلات عن اعدام الروائي العراقي حسن
مطلك الذي اصدر في حياته رواية وحيدة بعنوان "دابادا" وظلت
ملابسات اختفائه، ثم اعدامه مجهولة، وكذلك معلومات عن محاولة انقلاب عسكري ظلت
مجهولة هي الاخرى. هنا مقتطفات من هذا الفصل.
"حدث ذلك في احد ايام شهر ابريل من عام 1991. اي بعد تحرير
الكويت بشهرين تقريبا، جاءني احد الاصدقاء وحدثني عن رجل لديه ما يمكن ان يقوله
لي! وعندما استفسرت منه عن هوية الرجل ولماذا انا بالذات طلب مني عدم الاستعجال
والتريث حتى أراه. كان فضولي المشهور به، وهو داء اصابني منذ اكثر من عشرين عاما
عندما عرفت الصحافة لاول مرة، ولذلك قصة اخرى سترد في فصول اخرى، يدفعني من اجل
لقاء الرجل. ولم تنفع محاولاتي الكثيرة مع صديقي من اجل ان يبوح لي بسر الرجل! كل
ذلك على الرغم من ان ذلك الصديق قد حدد لي موعدا معه في مساء اليوم نفسه.انتقلنا
بالسيارة الى مكان الموعد وفي الوقت المحدد رأيت الرجل في منزل مستضيفه.التقيت
"س.د" وهذه ليست الحروف الاولى من اسمه بالتأكيد، فالرجل طلب مني ان
انشر هذا الحديث ولكن ليس قبل مرور بعض الوقت لئلا يتعرض لملاحقة ازلام السلطة في
العراق. وها قد مرت سنوات على هذا اللقاء. لقد مرت سنوات ربما اكثر مما يجب!!
وهآنذا اتحدث عنه الآن بحرية اكبر. فمن الاشياء التي لا تتكرر على الدوام ان يلتقي
المرء مع انقلابي "سابق" على صدام حسين في الكويت المحررة للتو من هذا
الاخير. وكما لو ان الامر يبدو امتدادا لغويا لرواية "دابادا" لاحد
الانقلابيين، ونوعا من الغرائيية ذاتها التي كتب بها حسن مطلك اعماله القصصية
والروائية. ومارسها رجل مثل صدام حسين على بلد مثل العراق منذ اكثر من ثلاثة عقود.
وبهذه الغرائبية المطلقة التي كتب بها احد اعضاء تنظيم العراقيين الاحرار تم في
الواقع التخطيط للانقلاب على نظام صدام حسين واستبداله بنظام ديمقراطي.يقول محدثي
المتواجد في الكويت ابان الغزو ثم التحرير: "فررت فور انكشاف امرنا الى
الكويت التي عبرت حدودها برا. اعتقد بأنني الناجي شبه الوحيد من مجزرة الاعدامات
التي طالت كل اعضاء التنظيم".لكن الناجي شبه الوحيد من الاعدامات التي طالت
اعضاء التنظيم. لم يكد يستقر في الكويت متخفيا الى حين تحين الفرصة المناسبة
للخروج الى اوروبا كما ذكر لي حتى لحق به الى الكويت صدام حسين مجتازا هو الآخر
حدودها ولكن ليس هربا من اعدام يطارده من احد ولكن لنشر المزيد من الاعدامات
والموت.
يروي الانقلابي رفيق حسن مطلك انه قضى شهور احتلال الكويت في رعب
دائم. فهو من ناحية لم يكن من السهل عليه التخفي ككويتي، اذ لم يكن يملك هوية طالب
كويتي وكان اغلب الكويتيين الهاربين يفضلون هوية طالب!! او في احسن الاحوال هوية
موظف في وزارة التربية! ثم انه من ناحية اخرى عراقي، وقد يعرضه ذلك لشبهات من
الكويتيين انفسهم. ويروي بأنه حاول الهروب الى المملكة العربية السعودية لكنه لم
ينجح في ذلك. في النهاية وجد احد الكويتيين المتفهمين فخبأه لديه.اما اغرب ما
يرويه لي "س. د" في الكويت فهو التالي:كان قد استقر لدينا بأن ساعة الصفر
كما يسميها الانقلابيون عادة في الوطن العربي، هي اول احتفال لصدام حسين علني
بتأسيس الجيش العراقي في السادس من شهر يناير (كانون الثاني). وبالفعل فقد تم
تجهيز كل شيء على هذا التوقيت. لا تستطيع ان تتخيل كيف نجا صدام حسين من موت محقق.
انه ذئب غير بشري. لك ان تتخيل خطة في غاية الاحكام كانت سوف توفر على العرب وعلى
الاخص الكويتيين والعراقيين آلاف الموتى والاسرى والمعاقين، ناهيك عن الدمار
المادي والمعنوي. شهور قليلة فقط كانت سوف تغير مجرى تاريخ المنطقة، لذا لا اخفيك
سرا بأن هذا الرجل محمي بفعل قوى خارجية تتعاون معه من اجل الحاق الاذى
بالمنطقة"! لم يكن محدثي الذي يستضيفه احد الكويتيين يطمع سوى بتوثيق هذه
التفاصيل لكي يطلع عليها الآخرون في ما بعد. كان في غاية الهدوء ولم تكن امارات
الرجل العنيف تبدو عليه. وان كانت قامته العسكرية لا تخطئها العين. وكان من حين
لآخر يبتسم بتلك الابتسامة التي سيتم تعميمها على العرب جميعا بفعل مغامرات السلطة
هنا وهناك: ابتسامة اليأس!لكن كيف نجا صدام حسين من الموت قبل السادس من
يناير؟ولماذا اختار تنظيم الضباط ثم لاحقا العراقيون الأحرار توقيتا مثل هذا؟ كيف
تتم تصفية الرجل ونظامه معا في ساعة عرض قوته؟ لا بد ان المثال المصري كان حاضرا
في أذهانكم أليس كذلك؟ المنصة والعرض والبزة العسكرية... وقاطعني محدثي ليقول
بثقة: "لا ونعم؟".كيف؟ يضيف محدثي "إن حادث المنصة المصرية الشهير،
كان مجرد اغتيال، ولم يكن تصفية لنظام بالكامل. لم نكن نريد تصفية صدام حسين وحده.
لم يكن يعنينا ذلك كثيرا، نظام البعث بأكمله هو الذي كنا نريد تصفيته. نظام الحزب
الواحد. النظام المخابراتي. هل تظن بأننا كنا نريد التضحية بأنفسنا من أجل ان يأتي
ديكتاتور آخر؟ لكن كيف كنتم ستصفون نظاما بأكمله في ساعة عرض عسكري؟سألت الرجل
وأنا اعرف بأنني كنت اقترب من أكثر اجزاء الحديث اثارة. استطرد
الرجل بهدوء "اسمع، لقد قررنا ان نصفي كل النظام في يوم العرض العسكري وليس
فقط صدام حسين. لقد كانت الخطة تقضي بأن يحدث ذلك على الهواء مباشرة، فقد كانت
هناك قوة سوف تحتل مبنى الاذاعة والتلفزيون. لم تكن قوة من الخارج، كان اغلبها من
القوة التي تحرس المبني نفسه، على ان يستمر بث التصفية للعراقيين والعالم بأسره.
لقد سبقنا الـ "سي ان ان" في التفكير بنقل الوقائع المثيرة للمشاهدين
عبر البث الحي!كنا قد خططنا لانقلاب على الهواء مباشرة؟ألم أقل لك بأنه كان سيكون
اختراعا عراقيا! أما بالنسبة للقصر الجمهوري فقد كان هناك اللواء المكلف بحراسة
هذا القصر هو نفسه المكلف في لحظة الانقلاب بالاستيلاء على القصر الجمهوري وتصفية
كل من كان فيه من البعثيين. وكان هناك في كل الوحدات العسكرية مجموعة مكلفة
بالاستيلاء على وحدتها. كان كل شيء سيحدث في توقيت واحد تقريبا.كنت اصغي باهتمام
بالغ لحديث الرجل دون ان اتمكن من وقف النشاط المحموم لذهني في طرح التساؤلات.
وسألته فجأة: وماذا عن الجزء الأهم اعني العرض العسكري نفسه؟" في لحظة مرور
فرقة الدبابات كان هناك عدد من هذه الدبابات مكلف بقصف المنصة، أي استهداف صدام
حسين مباشرة. وفي الوقت نفسه تطلق الطائرات الحربية المشاركة في العرض صواريخها
على المنصة، ناهيك عن الجنود الموجودين في العرض والذين كانوا سيشاركون ايضا
بأسلحتهم. كانت ستكون مجزرة حقيقية للديكتاتور. كما ذكرت لك قبل قليل كان التخطيط
محكما للغاية، لكن احد الضباط في الأيام الاخيرة كان قد ارتكب الخطأ الوحيد
والبسيط القاصم! وهكذا تفشل الخطط وتخسر القوى ويتغير التاريخ بسبب خطأ بسيط جدا
وليس خطأ كبيرا، لقد فاتح هذا الضابط شقيقه بموضوع التنظيم وشيء من خطة الانقلاب
على أمل ان يقوم هذا الشقيق بدور ما تخيله هذا الضابط، لكن هذا الشقيق التعيس كان
صدام حسين بما بناه من اجهزة مخربة في المجتمع العراقي قد استطاع ان يفصله عن
شقيقه. استطاع ان يتسلل الى بيت هذا الضابط عبر تنظيم ارهابي اسمه حزب البعث العربي
الاشتراكي! وكان هذا هو الخطأ الذي كلف اعدامنا جميعا وغزو الكويت وتخريب العراق! لقد
وشى الشقيق البعثي، أو ربما فقط المستبعث، بشقيقه الضابط وقيل له اسكت ولا تخبر
شقيقك حتى نعرف كل اعضاء التنظيم أو على الأقل اهمهم، لقد تم القبض على الجميع
بالفعل ما عدا محدثي الذي اختار الكويت لكي يهرب اليها ثم ما لبث صدام حسين لأسباب
مختلفة ان تبعه اليها. أما شقيق الضابط العراقي الذي وشى بأخيه، فقد قيل له في
البداية انك تقوم بعمل وطني وقومي وسوف تمنح.. نوطاً للشجاعة؟هذا الرجل كان يستحق
بالفعل نوطا لكل هذه الشجاعة التي توافرت في جسده وروحه ضد شقيقه ووطنه؟.. لا يشي
بشقيقه لكي يعدم سوى رجل شجاع شجاعة خاصة.. بل ان قلبه ميت.. حقا! لكن صدام الذي
عرف بالوفاء التام!!!.. لم يقلد هذا الشقيق نوطا للشجاعة أبدا، بل علقه هو الى
جوار شقيقه؟ فالذي يخون شقيقه عند صدام سيخونه يوما ما...هذا الـ صدام كان محقا
هذه المرة.. هذه المرة فقط!!
سوف يذكر التاريخ لهؤلاء الابطال الشجعان محاولتهم الجريئة هذه
بالتأكيد. ثم ظللت غيمة حزن وجه محدثي وهو يتكلم عن اصدقائه الذين سقطوا من أجل
الحرية. ومن هؤلاء الروائي الشهيد حسن مطلك. لقد كتب حسن مطلك روايته
"دابادا" وفي ذهنه بالتأكيد محاولة الانقلاب على السلطة، اي سلطة. سلطة
النص، وسلطة صدام حسين. اكثر ما دمر الكتابة العربية الاستنساخ والتقليد، لذا اصبح
النص العربي/ إلا قليلا، محكوما بلا هوادة بديكتاتورية التناص القدري. الشعراء
كلهم ينبضون بوتيرة واحدة. الروائيون، الصحفيون، المفكرون كذلك، والسلطة السياسية
العربية بلا استثناء.حسن مطلك الشاب المتدفق حياة ذهب بعيدا جدا في معارضته. لقد
اراد ان يقبض على السياسي والروائي بيد واحدة، فأوثقوا يديه معا تحت المشنقة، لكن
وان غيبوا جسده فإن نصه الروائي لم يغب ابدا. وها نحن اولاء جميعا نتذكر ونكتب كما
لو كانت الرواية قد صدرت حديثا، كما ان "دابادا" لم يتم تجاوزها حتى بعد
مضي اكثر من ثلاثة عشر عاما. واكثر من عشر سنوات على استشهاد كاتبها. ومن
المفارقات الطيبة ان حسن مطلك الصديق والانسان والروائي والانقلابي الثوري استطاع
ان "يحيينا" جميعا من أجل ان نكتب ونتذكر ونقاوم، لقد استنطقنا
واستكتبنا ودفع الكثير للكتابة. ليس بالضرورة عنه ولكن عما استشهد من أجله".
--------------------------------------
*نشرت في صحيفة (الشرق الأوسط) العدد 9049 لندن 7 سبتمبر 2003م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق