حسن
مطلك: حكاية لوركا العراق بين الطين والحلم
شوقي كريم
حسن
كادر فيلم: دابادا... صرخة حسن مطلك
مدير التصوير: أحمد الهلالي، العراق
موسيقى: خالد كاكي، بلجيكا
مونتير: صافي داووي، العراق
ترجمة: علي سالم، النرويج
أرشيف ومتابعة: د. محسن الرملي، إسبانيا
سيناريو وإخراج: علي ريسان، السويد
فيلم (دابادا) للمخرج علي ريسان عن الشهيد
حسن مطلك مشروعًا عميقًا ومؤثرًا يستحق التوقف عنده، للتأمل في حياة هذا المثقف
الاستثنائي الذي انتهت حياته مبكرًا، لكن أثره لا يزال حاضرًا. يمكننا تحليل
الفيلم من عدة زوايا تلقي الضوء على رسالته وأبعاده الفنية والإنسانية. يظهر أن
الفيلم وكاتبه ومخرجه علي ريسان يسعيان إلى توثيق حياة حسن مطلك كجزء من ذاكرة
العراق الثقافية، في مواجهة محاولات تزييف التاريخ وتغييب الشخصيات الحرة
والمبدعة. الرسالة الأساسية تتجاوز الحكي عن شخص بعينه لتلامس قضايا إنسانية أعمق:
الصراع بين الحرية والقمع، وبين الإبداع والسلطة. إنه دعوة للتأمل في مصير
المثقفين الذين حاولوا إعادة تعريف معنى الإنسانية في سياقات قاسية.
الفيلم يبدو وكأنه يسير
على خطى الرواية الأدبية، حيث يمتزج الحكي بالشعر والرمزية. استخدام التفاصيل
الصغيرة مثل المكتبة الطينية، والقرية المنسية، وموهبته في الرسم والخط والتمثيل،
يجعل السرد حميميًا وإنسانيًا. هذا الأسلوب يمنح الفيلم عمقًا ويجعله قريبًا من المتلقي،
وكأنه دعوة للتواصل مع حسن مطلك كإنسان، قبل أن يكون شهيدًا أو رمزًا وبطلًا
مأساويًا كلاسيكيًا، يمثل نموذجًا للإنسان الذي يحترق ليضيء طريق الآخرين.
شخصيته تتأرجح بين
الحالم بالحرية والمبدع المتمرد الذي يدين الحرب، وبين الضحية الذي تنبأ برحيله
المبكر. هذه الأبعاد تمنح شخصيته جاذبية درامية، خاصة عند ربطها بتجربته الأدبية
في (دابادا) و(قوة الضحك في أورا)، التي تظهر كمرآة تعكس مأساته الخاصة. من خلال
الإشارة إلى أن الفيلم أخرجه فنان مُغترب، يبدو أن هناك تركيزًا على الصورة كوسيلة
أساسية للسرد. قد تكون المشاهد التي تصور المكتبة الطينية، الطبيعة الريفية،
وأدوات حسن الفنية (الرسم، الخط) مليئة بالرمزية التي تشير إلى ثراء شخصيته في
مقابل بساطة البيئة التي نشأ فيها.
ربما يستخدم الفيلم
التناقضات بين الحياة البسيطة والطموحات الكبيرة لإبراز الصراع الذي واجهه الشهيد.
السياق الزمني الذي يغطي الثمانينيات والتسعينيات، حيث الحرب والقمع والاضطراب
السياسي، يجعل حياة حسن مطلك شهادة على جيل كامل من العراقيين الذين عاشوا في ظل
الخوف والحرب. إدخال هذه الأجواء التاريخية ضمن السرد قد يعمق من تأثير الفيلم،
حيث يصبح حسن مطلك رمزًا لهذا الجيل. الفيلم يبدو كما لو كان رسالة حُب ووفاء
شخصية منك كصديق مقرب لحسن مطلك، وهو ما يمنحه طابعًا صادقًا وإنسانيًا. من خلال
هذا الفيلم، يبدو أنك تسعى ليس فقط لاستعادة ذكرى صديقك، بل لمنح صوته الخالد فرصة
لأن يصل إلى الأجيال الجديدة، التي قد لا تعرف شيئًا عنه في ظل "كتّاب السلطة".
مع كل هذا الثقل، يبرز
تساؤل عن كيفية تقديم الفيلم للحياة الداخلية لحسن مطلك: هل يمنح المتلقي مساحة
للتواصل مع أفكاره؟ أم أنه مجرد استعادة لسيرته؟ هل يترك مساحة للرمزية والتأويل،
أم يلتزم بمسار سردي تقريري؟ يبدو أن الفيلم ليس مجرد توثيق لحياة حسن مطلك، بل هو
أيضًا احتجاج ضد محاولات تغييب الرموز الثقافية، ودعوة للتأمل فيما يعنيه أن تكون
إنسانًا حرًا وسط سياقات سياسية واجتماعية قاهرة.
إنه فيلم عن الإنسان،
الحلم، والإبداع الذي يرفض الانكسار. سينما الوثيقة، خاصة عندما تتناول شخصية مثل
حسن مطلك، تتحول إلى أكثر من مجرد سرد مرئي للأحداث، بل تصبح وسيلة لإحياء الذاكرة
وتقديم شهادة حية تعيد تشكيل الماضي برؤية جديدة. هذا النوع من السينما يتميز
بقدرته على المزج بين الحقيقة والفن، مما يجعلها وسيلة فعالة للتوثيق والتأثير
العاطفي في آن واحد. الفيلم هنا لا يبدو مجرد تسجيل لحياة حسن مطلك، بل مشروع
لإعادة بناء سيرته بشكل يكشف أبعادها الإنسانية والفكرية العميقة.
حياة حسن مطلك الغنية
بالرموز والإشارات الثقافية تجعل من الفيلم فضاءً للتعبير البصري والدرامي.
المكتبة الطينية، على سبيل المثال، ليست مجرد مشهد عابر، بل استعارة عن قدرة
الإنسان على خلق وعيه وسط ظروف تبدو غير مواتية. هذه التفاصيل البسيطة يمكن
استثمارها في سينما الوثيقة لتحمل دلالات عميقة توصل رسائل عن مقاومة القمع بالفكر
والإبداع. الرسم والخط والتمثيل ليست مجرد مهارات، بل تعبيرات عن شخصية حساسة
ومتمردة، تبحث عن طرق متعددة للتعبير عن ذاتها في مواجهة واقع قاسٍ. في سياق سينما
الوثيقة، الفيلم يقدم أيضًا فرصة لإعادة بناء الزمن والمكان من خلال الصورة
والصوت. المشاهد التي تصور بيئة (سديرة الوسطى)، القرية المنسية، يمكن أن تكون
مدخلًا لفهم التناقض بين محدودية المكان واتساع الأفق الفكري لحسن مطلك. هذا
التناقض يمكن استثماره لخلق لغة سينمائية تثير التساؤلات عن العلاقة بين الإنسان
وبيئته، وعن كيفية تجاوز الحدود المفروضة لتحقيق الحرية الفكرية. سينما الوثيقة
تتطلب أيضًا معالجة ذكية للزمن، خاصة عندما تتناول شخصية تنبأت بمصيرها، كما فعل
حسن مطلك في (قوة الضحك في أورا). المزج بين لقطات الماضي، سواء كانت أرشيفية أو
معاد تمثيلها، وبين شهادات معاصرة من أصدقائه وأفراد عائلته، يمكن أن يمنح الفيلم
عمقًا إضافيًا. التركيز على لحظات فارقة، مثل كتابته لقصص تدين الحرب ضمنيًا، أو
تحقيقه شهرة أدبية في ظل ظروف قاسية، يمكن أن يبرز تناقضات الزمن الذي عاش فيه
وتأثيره عليه.
الأهم في هذا النوع من الأفلام هو الحفاظ
على التوازن بين التوثيق الفني والبُعد الإنساني. حسن مطلك ليس مجرد ضحية لنظام
قمعي، بل مثال على المثقف الذي حاول أن يعيش بأقصى درجات الصدق مع نفسه. الفيلم
يمكن أن يتجاوز البُعد الفردي ليصبح شهادة على حقبة بأكملها، مليئة بالصراع بين
الحرية والقمع، بين الطموح والموت. سينما الوثيقة هنا ليست فقط وسيلة لإحياء ذكرى
حسن مطلك، بل أداة لاستعادة صوته في وجه محاولات التهميش والنسيان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*شوقي كريم حسن: كاتب وسيناريست عراقي معروف.
https://www.facebook.com/photo?fbid=10162365612424208&set=a.10151713235949208
*نشر في جريدة (الوطن الجديد) بتاريخ 12-1-2025 العراق.
https://www.facebook.com/profile.php?id=100063789858077&locale=ar_AR
*سينشر أيضاً في مجلة (سينما).