02‏/11‏/2025

من طاهر عصفور إلى حسن مطلك

 رسالة من طاهر عصفور إلى حسن مطلك

 

(من روائي على الطريق إلى روائي صار طريقًا)

تأخّرتُ في كتابة هذه الرسالة، ولا أدري لماذا.

ربما لأقرأك أكثر، وأستمتع بك أكثر،

وربما لأقف أمام أعمالك في صفاءٍ ودهشةٍ أكثر... وأكثر... وأكثر.

لكن جاء أخوك الأديب محسن الرملي، ومعه الصديق مؤمل الحطّاب،

ليذكّراني بتلك المهمّة التي ألزمتُ نفسي بها ذات صمتٍ طويل:

أن أكتب إليك.

أكتب إليك لا لأنك غائب، بل لأنك الحاضر الذي لا يغيب.

أكتب لأقول لك إننا ما زلنا نحاول أن نفهم اللغة كما كنت تفهمها أنت،

لا كأداةٍ، بل ككائنٍ حيٍّ يتنفّس ويحبّ ويتمرّد.

حين أقرأ (دابادا) اليوم، أشعر أنني لست أمام رواية،

بل أمام نهرٍ لغويٍّ يغسل اللغة من نفسها.

أشعر أنك لم تكتب لتُخبر، بل لتُبدع قولًا جديدًا،

وأنك لم تكن روائيًّا فحسب، بل كاتبًا يرى العالم بعينٍ لم تلوثها العادة.

كنتَ تعرف أن الحرف لا يُغيّر العالم،

لكنه يجعل الإنسان أقلّ استسلامًا للعتمة.

كنتَ تكتب بدمٍ يشبه ضوءًا حزينًا،

وبصبرِ من يعرف أن الجمال لا يُنجز بالسرعة،

بل بالوجع.

في هذا الزمن الذي يزدحم فيه الكتّاب وتغيب الكتابة،

نحتاج إليك أكثر من أي وقتٍ مضى.

نحتاج إلى تلك البراءة القاسية في عينيك،

إلى تلك اللغة التي تمشي في النار ولا تحترق.

يا حسن،

يا من تركتنا ونحن لم نكن جاهزين لغيابك،

يا من جعلتَ من موتك نصًّا مفتوحًا،

ومن صمتك درسًا في البلاغة.

أكتب إليك لأقول:

لم تمت، لأن الذين يكتبون بدمهم لا يموتون.

أنت حيّ في كل جملة تُكتب بتورّط،

في كل نصٍّ يتلعثم خوفًا من الصدق،

في كل كاتبٍ يعرف أن الكتابة ليست ترفًا،

بل عبورٌ نحو الضوء من تحت الركام.

سلامٌ عليك يا حسن،

في لغتك، في وجعك، في جرأتك التي لا تشيخ.

سلامٌ عليك يا أخي البعيد،

من أخٍ ما زال يسير في الطريق الذي بدأتَه،

حاملًا الحبر كمن يحمل وردةً في جنازة العالم.

*مُحبّك: طاهر عصفور

https://www.facebook.com/reel/2871262159732941

31‏/10‏/2025

لم آخذ حسن مطلك معي إلى موسكو/ مؤمل الحطاب

 

لم آخذ حسن مطلك معي إلى موسكو

مؤمل الحطاب

تشكّل علاقة القارئ بالكاتب المفضّل بعداً وجودياً يتجاوز حدود الاستهلاك الأدبي العابر إلى ما يشبه التماهي الروحي أو الانصهار الرمزي. ذلك أن الكتابة ليست نتاجاً نصيّاً فحسب، بل هي جزء من هوية متخيّلة للذات التي تبحث عن مرآتها داخل النصوص. ولكل إنسان كاتبه المفضل، وحين رأيت كتبه على التواصل الاجتماعي متوفرة في مكتبات بغداد، تذكرت فجأة، كمن داهمته عاصفة، أنني لم أُخطئ حين رتّبت حقيبتي في تلك الليلة الثقيلة في بغداد، لكني -على ما يبدو- تركت فراغاً في الحقيبة يتسع لكونٍ كامل حين لم أضع فيه كتب حسن مطلك. كنت أعرف أن السفر ليس انتقالاً من جغرافيا إلى أخرى، بل هو اختبار لصلابة الروح، ومع ذلك تركت مطلك خلفي كمن ينسى نافذة مفتوحة على الريح. ومع ذلك، لم أحمل معي سوى كتاب واحد “أبي فيودور”، الذي كتبته ابنة دوستويفسكي، كأنني كنت أتهيأ لرحلة إلى مدينة الأب الروحي للأدب الروسي، وأغفل عن نهر من بلادي بالتأكيد لا يُقارن بفيودور دوستويفسكي لكن كان من ورق وعظم لا من ورق وحبر.

في الطائرة، حين تحركت الأجنحة كأنها أرواح تتثاءب، أدركت أني أحمل معي كل ما هو فائض: قميصاً لا يلزمني، دفتر ملاحظات نصفه خالٍ، وعطراً لا يقنع سوى هواء المطارات. لكن لتارة أدركت أن حقيبتي مائلة. ليست مائلة بالوزن، بل بالمعنى. فقد اصطحبت صوت ابنة دوستويفسكي وهي تسرد حياة أبيها العاصفة لكني لم أحمل مطلك، لم أصغِ لصوت “دابادا” وهو ينهض من بين الرفوف، ولم أستمع إلى شخوصه وهم يطالبونني بجواز سفر مؤقت كي يعبروا معي إلى موسكو. وبالتأكيد كنت أتنقل بين صفحات الابنة، وأتخيل ظل الأب الكبير جالساً في المقعد المجاور، في حين ظلَّ حسن مطلك يطرق الباب من بعيد، يطالبني بمقعد لم أمنحه في الطائرة

في الدراسات الأدبية الحديثة، يُنظر إلى مفهوم الغياب بوصفه فعلاً تأويلياً، حيث ما يغيب عن النص أو التجربة لا يُقصي نفسه بل يفرض حضوره عبر الاستدعاء الدائم في الذاكرة.

كان في حياته القصيرة، يعرف أن الأدب أشد عناداً من الحديد. كتب كمن ينحت من صخرة، كمن يفتعل لغة جديدة ليقول إن العالم أكبر من قفص. حين أتذكر روايته أجد أنني أحتاج إليها في مترو موسكو أكثر مما احتجت إليها في أزقة بغداد، فالمترو هنا ليس سوى سرد طويل بلا راوٍ، أنفاق تمضي في عتمة لا تنتهي، ووجوه بعضها صلبة تحتاج إلى صرخة “دابادا” كي تتصدع. فحين سمعت امرأة روسية في المترو تصرخ على ابنتها، وقطعت سرب افكاري كنت في لحظة انغماس في حديث ابنه دوستويفسكي عندما منحتني هذه الابنة صورة الأب الذي حوّل آلامه إلى روايات خالدة. كان حسن مطلك -بغيابه- يذكّرني بأن في بلادي أيضاً آباءً أدبيين صلبتهم المقاصل، وبأن ابنتهم لم تكتب بعد كتاب “أبي حسن”.

لم آخذه معي، ولذلك شعرتُ في الليالي الروسية أن المدينة تنغلق عليّ كجرسٍ زجاجي. كنت أبحث في رفوف المكتبات العملاقة عن ظلال، عن كاتب يضع على الورق غضباً يشبه غضب دجلة حين يفيض، فلم أجد سوى نصوصٍ طويلة مثل سكة القطار، مدجنة بلغة الروسية، أو أخرى باردة لا تُشعل في صدري إلا مزيداً من البرد. هنا أدركت أنه لم يكن مجرد كاتب عراقي، كان صاعقة تنزل على اللغة نفسها، يخلخل قواعدها، ويزرع في أحشائها براكين من المجاز.

تساءلت: ما معنى أن تترك بلادك ولا تأخذ كتاباً يمثلها؟ كنت مثل مَنْ هاجر ومعه تراب الوطن على ثيابه، لكن من دون معنى. رأيت الروس يقرأون بوشكين ودوستويفسكي في المقاهي، وأنا أتأمل كأنني سافرت بلا جذور.

لقد علّمني غياب كتب أدبائنا أكثر مما كان سيعلّمني حضورهم. اكتشفت أن الكاتب لا يحتاج إلى جواز سفر كي يلتحق بك؛ إنه يختبئ في الذاكرة، في الجمل التي حفرت قلبك. ومع ذلك، ثمة ألم، ألا تلمس الورق، ألا تفتح الصفحات وتشم رائحة الورق الذي كتب به رجلٌ يعرف أنه يُدَوّن سطوره الأخيرة في حياة مسلوبة.

كان حسن مطلك، بشهادات النقاد، واحداً من أبرز الأصوات التي أرادت أن تؤسس سرداً عراقياً جديداً، لكنه دفع ثمن الحرية كاملاً. إعدامه لم يُخرسه؛ بل جعل نصوصه تتحدث بأكثر من لغة، وتهاجر بلا جواز. حين كنت أعبر الساحة الحمراء، خُيّل إليّ أنّ ظل صوت أبي يمشي جواري، يضحك من غفلتي، ويقول لي: “لماذا تُحمّل التفكير أكثر مما يحتمل؟”. 

لكن قلت له في المرة القادمة سوف آخذ حسن مطلك معي. ولعل ذلك هو الدرس الأجمل، أن الكاتب الذي لم آخذه معي إلى موسكو، كان حاضراً في كل مكان

*حسن مطلك (1961-1990) كاتب ورسام وشاعر عراقي. ويعد واحداً من أهم الأصوات الأدبية الحداثية التي برزت في العراق، في ثمانينيات القرن العشرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نشرت في (قرطاس الأدب) بتاريخ 30/11/2025م.

https://qertasaladab.com/%d9%84%d9%85-%d8%a3%d9%8e%d8%ae%d9%8f%d8%b0-%d8%ad%d8%b3%d9%86-%d9%85%d8%b7%d9%84%d9%83-%d9%85%d8%b9%d9%8a-%d8%a5%d9%84%d9%89-%d9%85%d9%88%d8%b3%d9%83%d9%88/

09‏/09‏/2025

عن رواية دابادا / محمد خضير سلطان

 

المحتوى السردي للزمن الفارغ في رواية «دابادا» 

محمد خضير سلطان

على الرغم من أن رسالة الشهادة، سامية الدلالة في أبسط معانيها، إلا أن الحياة والبقاء فيها لوقت قصير آخر لدى بعض الشهداء، ربما كانت ضرورة على درجة حساسة من الفهم العميق، لما يمكن أن يقدمه المرء من تجربة إبداعية نادرة، تجعل القائمين على هذا الأمر يفكرون بالاحتفاظ، بمن يختصون بتجربة مبدعة قابلة للنمو والتأثير، ويُستبعد صعودهم الجلجلة، أو ارتقاؤهم الموت، لأن في حياتهم قيمة إبداعية هائلة لا تقبل التفريط.

في هذا الشأن، روى لي الشاعر رياض النعماني هذه الحكاية نقلاً عن الشاعر مظفر النواب، قائلاً: حدث مرة بين عام 1960-1961، حين أقدم الحزب الشيوعي العراقي على إعلان تسليح عدد من أعضائه للدفاع عن النفس، إذ ملّ الحزب من احتواء وتحمّل وتصبّر الاعتداءات والاستفزازات المستمرة عليه آنذاك، على حد تعبيره، فتقدم العديد من الأعضاء لتسلّم أسلحتهم، وكان من ضمنهم الشاعر مظفر النواب، وحين تم توزيع الأسلحة عليهم استُبعد الشاعر النواب، إذ قال له الزعيم سلام عادل بما معناه من غير المعقول التفريط بموهبة نادرة نحتاجها أكثر وبمهمة أكبر وطبعاً يقصد المهمة الإبداعية.

في هذا السياق تمنيت يائساً لو أن فرصة نادرة من سراب ومكر التاريخ، استبعدت الروائي حسن مطلك عن مهمته السياسية، التي راح ضحيتها شهيداً، وأبقته في مهمته الإبداعية التي لم تكتمل. لو لم تختطفه السياسة عبثاً لكان الروائي حسن مطلك، ليس من المؤسسين للرواية الجديدة، ما بعد حقبة الستينيات فحسب، إنما من الذين يتبنون عودتها من المؤسسة السلطوية إلى محيطها المجتمعي، الرواية التي تتخلى عن كل الشرعات الأيديولوجية، وتخرج بيضاء بلا رتوش وزخارف، كانت توجّه وتقعّر الروايات والقصص لتضليل الرقيب، وتضيّع وعي القارئ بما بدده النص في شكله المتخفي عن إملاءات المؤسسة، والظاهر في موشورات فنية مركبة.

وإذا كان العديد من القاصين والروائيين الستينيين قد أسهم في تبني المشتركات العامة بين ما يريدونه على النحو الفني وما تبغيه المؤسسة بهدف البعد السياسي، وكانوا جميعهم مشدودين إلى مرساة واحدة بحبل قصير، غير أن الروائي حسن مطلك خاصة في روايته «دابادا» رمى مرساته في اتجاه آخر ليتخذ مضماراً فنياً جديداً حتى لو لم يكن بعيداً عن المياه والأجواء نفسها المنتجة للنصوص نفسها.
وعلى الرغم من ذلك، لم يشهد نص «دابادا» فضاءً سردياً حراً، ولجأ كغيره من النصوص إلى الزخرفة اللفظية المتناظرة مع السرد والتمويه الرمزي والقطع المفاجئ، والتوقف السردي، ليس لتضليل الرقيب لأن الرواية نُشرت خارجه «بيروت ـ الدار العربية للموسوعات سنة 1988»، ولكن هذه المرة لكي يتخلص من شراك القارئ «ليحمي نفسه من القراء»، كما يقول على الغلاف الأخير من الرواية، ويعني بالقارئ هنا العين الأمنية، «كما أوضح لي صديق الروائي الراحل المقرب الأديب أوات محمد أمين»، وليس القارئ العادي.

إذن، فإن جلّ الأعمال الستينية القصصية والروائية، يُنظر إليها الآن على انها نصوص مستعادة ومنفصلة عن ربقة الرقيب المؤسساتي وشراك الأعين الأمنية المحدقة بما فيها هذه الرواية، وإعادة فحص هذه النصوص، يجعلنا نقول ما الذي تبقى منها بعد سقوطهما (الرقيب وعين الأمن) أي أن أعمالاً أدبية كُتبت في ظروف التقييد والرقابة السياسية، وتعالق في نسيجها إخفاء ما يقلق، ويبعث على ريبة السلطات، وإظهار وسائل التجريب الفني كونها رد فعل على ذلك، حتى لو بدت سيرورة تطورية لفن القص والروي آنذاك، ولكنها تُقرأ الآن مجدداً في الفضاء النقدي الحر الذي سيفصل بين التعالق والتركيب والإخفاء والإظهار، وسيمهد حتماً إلى نشوء وعودة النص الجديد في حقبة ما بعد الستينيات إلى أدبيته وخطابيته الاجتماعية.

في هذا السياق، كان للروائي حسن مطلك طريقته الفنية في التضليل والالتفاف على الرقيب الأمني وتخطّيه، من خلال استخدام تقنيات سردية أخرى، لم تستخدم إلا في حدود ضيقة في النص القصصي والروائي الستيني، وبدت رواية « دابادا» متأثرة بها ومنسوجة وفقها، وإذا كانت هذه التقنيات السردية المستخدمة، تعود في معظمها إلى مؤثرات التداعي الحر والصور السريالية والتعدد الصوتي، إلا أن بناء المشهد السردي البروستي، نسبة الى مارسيل بروست، وتنوعاته الفنية بين الشعر والتجريد والموسيقى، وحاجة اللغة أن تقول شيئاً دائماً هو الغالب في بناء المشاهد السردية لدى « دابادا».
يذكر الناقد والأكاديمي الفرنسي جان إيف تادييه في معرض حديثة عن التقنيات السردية التي يستخدمها مارسيل بروست في رائعته «البحث عن الزمن المفقود»، أن كل شيء يجري في السرد، وكأنه استذكار وتراكم صفات وتوحيد بين الفن والذاكرة، ولكن سرعان ما يتوقف السرد أحياناً ويصطدم بعقبة خفية، ويلتقي بما يمتنع عن القول أو تغيير مجرى السرد. ويبدو أن رواية « دابادا» بنيت بكاملها على تقنية التوقف السردي، الذي يصطدم بعقبة خفية ومن ثم يتم إطلاق العنان للذاكرة لمتابعة أثر هذا التوقف عبر انتقالات مشهدية بين الانتظام والعشوائية ولكنها مؤطرة بما يحدد علاقتها بجملة التوقف السردية، إلى أن تنتقل إلى أخرى.

ما أن تبدأ الرواية بجملة سردية عن ضياع الأب في إثر أرنب مبقّع، وتليها بعض المعلومات التي تحدد زمن الاختفاء وعمر شاهين الإبن، حتى ينطلق التتابع الصوري للذاكرة في فضاء سردي آخر، كأنه نشيد يومي قروي غير منقطع، واستعراض مفصل لعادات ألفها الجميع في حياة القرية، وتم انتقاؤها لتتدفق باستمرار، إلى أن تنحسر شيئاً فشيئاً لتصل إلى جملة سردية أخرى مثل مراسم نزع حداد الأم وخروج شاهين إلى الناس، أو موت عبد المجيد بسم الفئران وغيرها، كل هذه الجمل السردية المنضوية في المتن الحكائي، لا تعدو سوى ان تكون قَطعاً سردياً في كل منها، يستأنف في ما بعد بسلسلة من التداعي المرسل، مثل فجوات، تسعى اللغة إلى ردمها وتتهيأ معها لجملة سردية جديدة حتى بلوغ الخاتمة.

ولم تكتف رواية «دابادا» باستخدام هذه التقنية البروستية، بل تخطتها إلى طريقة الروائي في ابتكار صيغته الخاصة للمحتوى السردي الذي يستخدمه بروست في البحث عن الزمن الضائع ويستخدمه حسن مطلك في البحث عن الزمن الفارغ، الزمن البروستي المفقود، لن يفقد سيرورته وجدليته التاريخية ومختف في مستويات عميقة من المكان نفسه، فيما الزمن الفارغ لدى مطلك خال من التاريخية ويستجمع عبثاً في مظان البحث الأركيولوجي الاستشراقي والكولونيالي، عن مكانه وموقعه الحقيقي في رمال آشور المترامية كذاكرة رافدينية، لا تحددها لحظة محلية مفارقة ومعاصرة.
كان بروست يقول «لو ظل لي في الأقل ما يكفي لتحقيق كتابي، لما فاتني أن أطبعه بطابع الزمن الذي يسودني بهذا القدر من القوة، ولو وصفت الناس فيه كأنهم كائنات خيالية، كأنهم يشغلون بالزمان مكاناً آخر أوفر اتساعاً بكثير من المكان اليسير جداً الذين خصوا به». إن القدر الكبير من التماسك الزمني والمكاني في البحث عن الزمن المفقود، لا يساوي الضائع والمهدور من الزمن الفارغ في «دابادا»، فالصرخة التي تطلقها الرواية في الفراغ، كما جاء في الغلاف الأخير، لا يمكنها أن تنتقل إلى الأسماع أبداً، لأن تردداتها ستصطدم في فضاء فارغ، والكائنات التي تبدو خيالية ومترابطة ومتكاملة مع مكانها السردي الجديد لدى بروست، ستكون أقل من شروع واقعي في دابادا، وتتعرف إلى نفسها لأول مرة لدى مطلك.

ولعل العنصر السردي المشترك بين الزمنين الضائع والفارغ هو محتوى اللغة الذي سيحسم عودة الضائع، وتشكيل الفارغ كما يضمن ملء وتوضيح جميع الفجوات وإحياء مكان السرد الجديد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نشرت في صحيفة (القدس العربي)، العدد 11823 بتاريخ 8/9/2025م

https://pdf.alquds.co.uk/wp-content/uploads/2025/09/Alquds-2025-09-08.pdf 

https://www.alquds.co.uk/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AD%D8%AA%D9%88%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B1%D8%AF%D9%8A-%D9%84%D9%84%D8%B2%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%A7%D8%B1%D8%BA-%D9%81%D9%8A-%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A9/

27‏/07‏/2025

قصائد حسن مطلك

 

قصائد حسن مطلك

 

-١-

سأموت في الثلاثين

-٢-

كل شي
ء يضحك

البيوت

الدروب

الخبازات

والذين سحبوا بقراتهم من النوم

كل شيء يضحك

الكلاب

نباتات الشوك

الأعشاب الميتة

والرجل الغريب الذي نام خجلا بفضل التكرار

-٣-

لا شيء

تموت المساءات وتحل اخرى مكانها

-٤-

أحيانا

أحيانا كثيرة

يخلعن للقمر كل ما يلامس أجسادهن

ثم

يضعن الصحن

كي يضيء الحنين

-٥-

الدم

دمي أنا

دم الأسماء

دم الحمار

دم الخشب

كل ذلك،، دم الخريف

-٦-

لست شجاعا

عندما أصغي لطفل جائع

يأكل أصابعه

بينما يفتح الطريق أسئلة الغرباء عن اثار مخالب الثعلب في ليل الأمهات

-٧-

جرب

جرب مرة واحدة

ان تتكلم مع البط

-٨-

هل أذهب، أنا الدليل الذي لا يؤجل عمله في هذا التيه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*النصوص جمعها واختارها الشاعر مهدي النفري، من أعمال حسن مطلك.

21‏/07‏/2025

حسن مطلك /بيت الخيال/ كمال الرياحي

 

لوركا العراقي

الأديب الشهيد

حسن مطلك

كمال الرياحي

18جويليه/ يوليو/ تموز؛ في مثل هذا اليوم أُعدِم الكاتب الكبير حسن مطلك، وفي هذه الذكرى الأليمة، وبعد أن نترحم عليه جميعاً، يقدم لكم (بيت الخيال) هذه الحلقة، وهذه الشهادات من أصدقائه وعائلته ومن القراء والكتاب الذين أحبوه.. عاش حسن.. عاش المبدع الفذ، وشكراً لكل من شارك في هذه الحلقة من الكتاب والفنانين، الأساتذة: كريم شعلان، زهير كريم، عبدالهادي سعدون، جبار الجنابي، إبراهيم فرغلي، مؤمن الوزان، علي ريسان، حسين العنكود، هادي الحسيني ومحسن الرملي

مقطع من التقديم

الحلقة كاملة:

https://www.youtube.com/watch?v=1FQu5IXm9Gw

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

24 يونيو/جوان/حزيران 2025م

شرعتُ في تسجيل حلقة من برنامجي على اليوتيوب. كانت الحلقة عن الأديب الشهيد حسن مطلك Hassan Mutlak لتبث بمناسبة ذكرى إعدامه يوم 18جويلية يوليو 2025م.

أنهيت التسجيل وقمت بمونتاج الحلقة، تحدثتُ قليلاً مع شقيق الفقيد: الصديق الروائي محسن الرملي من مدريد. وشارك في الحلقة عدد كبير من المبدعين العرب... كانت حلقة عاطفية. أنا أحب حسن مطلك الذي أعدمه، بلا رحمة صدام حسين، بتهمة المشاركة في انقلاب، لذلك؛ أنا لا أغفر أبداً لصدام حسين، ومن يغفر لمن يقتل شاعراً ورساماً!؟

كان حسن مطلك كاتب يوميات رهيب. خصصتُ له قسماً من كتابي النقدي (فن اليوميات) الذي أنهيته منذ أشهر. كنت درَّسته أيضاً في جامعة تورنتو.

 

كان حسن مشروع كاتب عظيم أعدمه طاغيةً وحرم العالم من صوته.

لكن هيهات ان يموت الكاتب!

ها هو خالد، وها أنا أُنجز برنامجاً عنه وأُحدث العالم عن أدبه... كانت روايته (دابادا) نصاً عجيباً، ولكن حياة حسن كانت أكثر عجباً. كان ثائراً ورومنسياً حقيقياً، يحلم بتغيير شامل للواقع السياسي والواقع الأدبي والواقع الفني والواقع النقدي.

يكتب كأنه يجترح العالم لأول مرة. يُدرب الجُملة على ألا تكون مجرد جُملة، ويُدور الحرف لينحرف على الخطوط المستقيمة، ليكتب أدباً مستقيلاً من تدوير الذي قيل.

(دابادا) رواية مُزعجة، إما أن تُحبها أو تكرهها، إما أن تحضنها أو ترميها، وهكذا هو حسن مطلك.. قصووي في كل شيء، ولا يتحدث الا لكي ينفذ، عنيد حد الذهاب رأساً، حاملاً رأسه بين يديه إلى المشنقة.

شاهدوا حلقة (لوركا العراقي حسن مطلك) على قناة (بيت الخيال)، على هذا الرابط:

https://www.youtube.com/watch?v=1FQu5IXm9Gw

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

7جويليه/يوليو

كنت انتهي من إعداد حلقة خاصة من (بيت الخيال) على قناتي في اليوتيوب عن الكاتب العراقي حسن مطلك.. الكاتب الذي أعدمه صدام حسين شنقا سنة 1990 بتهمة المشاركة في محاولة لقلب نظام الحكم. كنت أعد الحلقة لأعرضها يوم 18يوليو بمناسبة الذكري الخامسة والثلاثين لإعدامه، عندما فتحت كتاب اعترافات تولستوي وأخذت أتصفح فصله الأول، لأقرأ هذه الفقرة.. كأنما كان تولستوي يتابع ما كنتُ أفعل وأعد:

"وفي أثناء إقامتي في باريس أظهر لي منظر إعدام أحد المجرمين ضعف اعتقادي الوهمي بالتقدم. لأنني عندما رأيت رأس الرجل يطير عن جثته، وسمعت الصوت الذي أحدثه سقوط رأسه وجثته في الصندوق المعد لهما، أدركت بكلية كياني، وليس بفكري فقط، أنه ما من نظرية بحكمة جميع النظم الموضوعة، والعقائد المقررة القائلة بالتقدم والارتقاء، تستطيع أن تبرر هذا العمل الفظيع وأدركت أيضاً في أعماق قلبي أنه، ولو أجمعت كلمة كل أبناء الإنسان منذ الخليقة إلى الآن أن مثل هذا العمل ضروري للتقدم فإني أعرف كل المعرفة، أنه غير ضروري، وأنه عمل رديء بذاته ولذلك يجب علي أن أحكم على ما هو حق وضروري، ليس بما قاله الناس وفعلوه، ولا بما رتبوه من النظم للتقدم، بل بما أشعر بصوابه في أعماق قلبي ."

ما قاله تولستوي طمأنني، فلطالما خرج عليّ بعض الصداميين مبررين ما فعله بالشاعر والروائي كلما تحدثت عن حسن مطلك. فصدام كسب شعبية مضاعفة عند الحشود عندما شنق ولكن هذه الحشود تُحلل شنقه للآلاف بمن فيهم شاعر ورسام اسمه حسن مطلك.

تولستوي حسم الأمر معي؛ وأنه لا مُبرر لإعدام أي شخص مهما كان جرمه. حسن ليس مُجرماً وحتى لو شارك فعلاً في تلك المحاولة للتغيير، فإن دافعه الأساسي ليس الوصول للحكم، بل غايته تغيير وضعية الإنسان والبحث عن العدالة... كان حسن رومانسيًا بالمعنى العميق للكلمة. كان يحلم كدون كيخوته بكل الطرق لاستعادة القيم الضائعة.

كان تولستوي في ذلك الكتاب يعترف فعلا بأنه كان مزرياً وفاسقاً وكان قاتلاً وكان سيئاً، وانه ما جاء إلى الكتابة إلا بحثاً عن المال والشهرة.

تجعلنا قراءة هذا الكتاب في مأزق سؤال ثقيل: ماذا يعني أن نكتب سيرنا عربيا؟ ماذا يعني أن نكتب ذواتنا؟ هل فعلا نحن مستعدون لذلك؟ مستعدون لذلك الاعتراف وحالة التجلي التي تحتاجها تلك الكتابة؟ هل ونحن ندون يومياتنا نسجلها فعلا أم نُزوّرها لتترسخ في أذهاننا قبل الآخرين كحقيقة بديلة عن المعاش؟ هل ونحن نكتب هذه اليوميات نفعل شيئا آخر، غير إعدام ذلك الشخص الذي طار رأسه أمام تولستوي ليسقط في الصندوق؟!

مهما توهمنا أننا صادقين في تسجيلنا لحيواتنا، يتسرب الكذب على شكل وهم. لا يمكننا صده.

أفكر جيدا في مفهوم الإنسان نفسه فأجد الخيال، الكلمة الراقية المعادلة للكذب، يشكل جزءا مهما من هويته. وهنا يأخذ مفهوم الصدق في الكتابة عن الذات معنى آخر، فلا تتشكل الذات فعليا وبشكل صادق إلا من خلال التخييل، ذلك الكذب، فنحن أصدق عندما نكذب.. يا لهذه المفارقة!

لقد توغل حسن مطلك في التخييل حتى التماهي معه، لذلك هجم على طواحين الريح برمح مهشم وحصان هزيل. سقط دون كيخوته في آخر الرواية قتيلاً وسقط حسن في النهاية قتيلاً.

مصير واحد للحالم ولرجل الخيال.

كذلك سقط تولستوي آخر حياته على سكة الحديد، هارباً من بيته ومن العالم كله.

عندما فكرتُ لماذا أهتم بحسن مطلك منذ سنوات. صادفتني أيضاً عبارة لتولستوي قالها عندما مات دوستويفسكي: "لم أرَ هذا الرجل قط، ولم تكن لي أي علاقة مباشرة معه، وفجأة عندما مات أدركتُ أنه كان الرجل الأقرب والأعز والأكثر ضرورة بالنسبة لي ".

*نشاهد الحلقة على هذا الرابط:

https://www.youtube.com/watch?v=1FQu5IXm9Gw

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

19‏/07‏/2025

في ذكرى حسن مطلك / جُمار

 

حسن مطلك في ذكرى رحيله

عن مقاومة السلطات بالفن والكتابة والروح.. 

جُمّار

في قرية صغيرة، اكتشف طفلٌ موهبته في الرسم، ورغم رفض مجتمعه، صار يعبر عن أفكاره بالقصص والرسوم الساخرة. تمرد على محيطه وعلى السلطات، حتى أعدم وهو في التاسعة والعشرين من عمره.

هنا سيرة حسن مطلك، الأديب والفنان، الذي قارع "البَطح الاجتماعي" والسُلطات بالفن والكتابة.. والروح..

وُلد حسن مطلك عام 1961، في قرية سديرة التابعة لقضاء الشرقاط شمالي العراق، لأسرة متدينة ومحافظة، في بيئة لا تعرف الفن، ولا تقبله، وسرعان ما اصطدم بواقعه حين اكتشف موهبته الفنية مبكراً، وهو في الصف الرابع الابتدائي، عندما كلّفه معلمه برسم لوحة عن "الراعي".

لم يرَ في المهمة واجباً فقط، فانطلق إلى البراري يرسم الغنم بإبداع طفولي مدهش، فمنحه المعلم أول علبة ألوان في حياته، ومن هناك كانت اللوحة الأولى.

رسم بكل ما توفر له من أدوات، حتى حين حُرِم من الورق، راح يرسم على الجدران وأغلفة الكتب والأرض. واجه رفضاً شديداً من أسرته ومجتمعه، لم يتراجع، بل أصرّ على طريق الفن، حتى أقام أول معرض تشكيلي له وهو مراهق في إعدادية الشرقاط عام 1975، ونال عنه جوائز من مديرية التربية.

التمرد يكمن في اللحظة التي يكتشف الفنان فيها جمال الشيء، فينقله بأي أداة بصرية أم صوتية أم حركية، لا بالصورة التي تسبق الاكتشاف، بل بالصورة التي تأتي بعده.

حسن مطلك رغب بدراسة الفن أكاديمياً، لكن عائلته حالت دون ذلك، فالتحق بقسم علم النفس في جامعة الموصل عام 1979، معتقداً أن هذا التخصص سيساعده في فهم النفس الإنسانية، وتعميق رؤيته الفنية والأدبية. في الموصل تفتّحت مواهبه في الكتابة والرسم، وأقام معارض كاريكاتير ساخرة وقاسية، وبدأ ينشر قصصه في الصحف المحلية، فظهرت لغته المختلفة، وتمرده المبكر، وآمن دائماً أن "بالحلم يَتَجَدَّد كل شيء".

في الجامعة، أصدر مع زملائه مجلة "المُربّي"، وكتب فيها نصوصاً أدبية ونقدية تعكس رؤاه في الفن والتصوف والجمال، ووقّع رسوماته الكاريكاتيرية باسمٍ مقلوب ساخر "نسح كلطم ناظور". كتب قصصاً، واشتغل بمشروعه الروائي الأول "دابادا" سنوات، وأصدره لاحقاً في بيروت على نفقته الخاصة، بعد أن رفضت المؤسسات العراقية نشره.

"أغار على وطني.. الذي كُلما قارنتُ أدبه بآداب الشعوب اكتأبتُ.. ودفعني ذلك للقراءة والكتابة.. وستبقى تلك الغيرة تنهشني حتى أحقق ما يحققه كاتبٌ عظيم لوطنه.. أو أهلك دون هذا الأمر".

حسن مطلك

"قريبة هي الساعة التي سأقول فيها لكل شيء: وداعاً"

عند تخرجه عام 1983، سِيق إلى الخدمة العسكرية خلال الحرب العراقية الإيرانية، فعاش في الجبهات سنواتٍ من القصف والموت والخذلان، ورفض عروضاً لتسهيل خدمته مقابل تمجيد النظام أو رسم صورة للديكتاتور.

ظل صامداً ومتمرداً، حتى اشترك عام 1990 في محاولة انقلابية ضد النظام الحاكم. فشل الانقلاب، واعتقلته السلطات في 7 كانون الثاني 1990، وعذّبته أشهراً، ثم أعدمته شنقاً في محكمة الثورة دون محاكمة عادلة، يوم 18 تموز عام 1990.

ترك أثراً بالغاً في الأدب العراقي، رغم حياته القصيرة، بروحه القلقة، ولغته الفريدة، وتمرده الدائم على السلطة والقوالب. بعد رحيله نشر شقيقه الأصغر، محسن الرملي، رواياته ومقالاته وأعماله الفنية، لتبقى شاهدة على فنانٍ لم يخُن إيمانه بالجمال والحرية.

ولشدة توقه للحرية وشدة حبه لوطنه، كُتب على شاهدة قبره، عباراته: "أغار على وطني… اشتقتُ إلى الحرية من أجل الذود عن الحرية".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نشر في مواقع وصفحات منصة (جُمار) بتاريخ 18/7/2025م 

https://jummar.media/

https://www.facebook.com/photo?fbid=722686337230342&set=a.122371073928541

*ونشر في منصة: مدار 24

https://madaar24.com/?p=12290