المحتوى السردي للزمن الفارغ في رواية «دابادا»
محمد خضير
سلطان
على الرغم من أن رسالة
الشهادة، سامية الدلالة في أبسط معانيها، إلا أن الحياة والبقاء فيها لوقت قصير
آخر لدى بعض الشهداء، ربما كانت ضرورة على درجة حساسة من الفهم العميق، لما يمكن
أن يقدمه المرء من تجربة إبداعية نادرة، تجعل القائمين على هذا الأمر يفكرون بالاحتفاظ،
بمن يختصون بتجربة مبدعة قابلة للنمو والتأثير، ويُستبعد صعودهم الجلجلة، أو
ارتقاؤهم الموت، لأن في حياتهم قيمة إبداعية هائلة لا تقبل التفريط.
في هذا الشأن، روى لي
الشاعر رياض النعماني هذه الحكاية نقلاً عن الشاعر مظفر النواب، قائلاً: حدث مرة
بين عام 1960-1961، حين أقدم الحزب الشيوعي العراقي على إعلان تسليح عدد من أعضائه
للدفاع عن النفس، إذ ملّ الحزب من احتواء وتحمّل وتصبّر الاعتداءات والاستفزازات
المستمرة عليه آنذاك، على حد تعبيره، فتقدم العديد من الأعضاء لتسلّم أسلحتهم،
وكان من ضمنهم الشاعر مظفر النواب، وحين تم توزيع الأسلحة عليهم استُبعد الشاعر
النواب، إذ قال له الزعيم سلام عادل بما معناه من غير المعقول التفريط بموهبة
نادرة نحتاجها أكثر وبمهمة أكبر وطبعاً يقصد المهمة الإبداعية.
في هذا السياق تمنيت
يائساً لو أن فرصة نادرة من سراب ومكر التاريخ، استبعدت الروائي حسن مطلك عن مهمته
السياسية، التي راح ضحيتها شهيداً، وأبقته في مهمته الإبداعية التي لم تكتمل. لو
لم تختطفه السياسة عبثاً لكان الروائي حسن مطلك، ليس من المؤسسين للرواية الجديدة،
ما بعد حقبة الستينيات فحسب، إنما من الذين يتبنون عودتها من المؤسسة السلطوية إلى
محيطها المجتمعي، الرواية التي تتخلى عن كل الشرعات الأيديولوجية، وتخرج بيضاء بلا
رتوش وزخارف، كانت توجّه وتقعّر الروايات والقصص لتضليل الرقيب، وتضيّع وعي القارئ
بما بدده النص في شكله المتخفي عن إملاءات المؤسسة، والظاهر في موشورات فنية
مركبة.
وإذا كان العديد من
القاصين والروائيين الستينيين قد أسهم في تبني المشتركات العامة بين ما يريدونه
على النحو الفني وما تبغيه المؤسسة بهدف البعد السياسي، وكانوا جميعهم مشدودين إلى
مرساة واحدة بحبل قصير، غير أن الروائي حسن مطلك خاصة في روايته «دابادا» رمى مرساته
في اتجاه آخر ليتخذ مضماراً فنياً جديداً حتى لو لم يكن بعيداً عن المياه والأجواء
نفسها المنتجة للنصوص نفسها.
وعلى الرغم من ذلك، لم يشهد نص «دابادا» فضاءً سردياً حراً، ولجأ كغيره من النصوص
إلى الزخرفة اللفظية المتناظرة مع السرد والتمويه الرمزي والقطع المفاجئ، والتوقف
السردي، ليس لتضليل الرقيب لأن الرواية نُشرت خارجه «بيروت ـ الدار العربية
للموسوعات سنة 1988»، ولكن هذه المرة لكي يتخلص من شراك القارئ «ليحمي نفسه من
القراء»، كما يقول على الغلاف الأخير من الرواية، ويعني بالقارئ هنا العين
الأمنية، «كما أوضح لي صديق الروائي الراحل المقرب الأديب أوات محمد أمين»، وليس
القارئ العادي.
إذن، فإن جلّ الأعمال
الستينية القصصية والروائية، يُنظر إليها الآن على انها نصوص مستعادة ومنفصلة عن
ربقة الرقيب المؤسساتي وشراك الأعين الأمنية المحدقة بما فيها هذه الرواية، وإعادة
فحص هذه النصوص، يجعلنا نقول ما الذي تبقى منها بعد سقوطهما (الرقيب وعين الأمن)
أي أن أعمالاً أدبية كُتبت في ظروف التقييد والرقابة السياسية، وتعالق في نسيجها
إخفاء ما يقلق، ويبعث على ريبة السلطات، وإظهار وسائل التجريب الفني كونها رد فعل
على ذلك، حتى لو بدت سيرورة تطورية لفن القص والروي آنذاك، ولكنها تُقرأ الآن
مجدداً في الفضاء النقدي الحر الذي سيفصل بين التعالق والتركيب والإخفاء والإظهار،
وسيمهد حتماً إلى نشوء وعودة النص الجديد في حقبة ما بعد الستينيات إلى أدبيته
وخطابيته الاجتماعية.
في هذا السياق، كان
للروائي حسن مطلك طريقته الفنية في التضليل والالتفاف على الرقيب الأمني وتخطّيه،
من خلال استخدام تقنيات سردية أخرى، لم تستخدم إلا في حدود ضيقة في النص القصصي
والروائي الستيني، وبدت رواية « دابادا» متأثرة بها ومنسوجة وفقها، وإذا كانت هذه التقنيات
السردية المستخدمة، تعود في معظمها إلى مؤثرات التداعي الحر والصور السريالية
والتعدد الصوتي، إلا أن بناء المشهد السردي البروستي، نسبة الى مارسيل بروست،
وتنوعاته الفنية بين الشعر والتجريد والموسيقى، وحاجة اللغة أن تقول شيئاً دائماً
هو الغالب في بناء المشاهد السردية لدى « دابادا».
يذكر الناقد والأكاديمي الفرنسي جان إيف تادييه في معرض حديثة عن التقنيات السردية
التي يستخدمها مارسيل بروست في رائعته «البحث عن الزمن المفقود»، أن كل شيء يجري
في السرد، وكأنه استذكار وتراكم صفات وتوحيد بين الفن والذاكرة، ولكن سرعان ما
يتوقف السرد أحياناً ويصطدم بعقبة خفية، ويلتقي بما يمتنع عن القول أو تغيير مجرى
السرد. ويبدو أن رواية « دابادا» بنيت بكاملها على تقنية التوقف السردي، الذي
يصطدم بعقبة خفية ومن ثم يتم إطلاق العنان للذاكرة لمتابعة أثر هذا التوقف عبر
انتقالات مشهدية بين الانتظام والعشوائية ولكنها مؤطرة بما يحدد علاقتها بجملة
التوقف السردية، إلى أن تنتقل إلى أخرى.
ما أن تبدأ الرواية
بجملة سردية عن ضياع الأب في إثر أرنب مبقّع، وتليها بعض المعلومات التي تحدد زمن
الاختفاء وعمر شاهين الإبن، حتى ينطلق التتابع الصوري للذاكرة في فضاء سردي آخر،
كأنه نشيد يومي قروي غير منقطع، واستعراض مفصل لعادات ألفها الجميع في حياة القرية،
وتم انتقاؤها لتتدفق باستمرار، إلى أن تنحسر شيئاً فشيئاً لتصل إلى جملة سردية
أخرى مثل مراسم نزع حداد الأم وخروج شاهين إلى الناس، أو موت عبد المجيد بسم
الفئران وغيرها، كل هذه الجمل السردية المنضوية في المتن الحكائي، لا تعدو سوى ان
تكون قَطعاً سردياً في كل منها، يستأنف في ما بعد بسلسلة من التداعي المرسل، مثل
فجوات، تسعى اللغة إلى ردمها وتتهيأ معها لجملة سردية جديدة حتى بلوغ الخاتمة.
ولم تكتف رواية «دابادا»
باستخدام هذه التقنية البروستية، بل تخطتها إلى طريقة الروائي في ابتكار صيغته
الخاصة للمحتوى السردي الذي يستخدمه بروست في البحث عن الزمن الضائع ويستخدمه حسن
مطلك في البحث عن الزمن الفارغ، الزمن البروستي المفقود، لن يفقد سيرورته وجدليته
التاريخية ومختف في مستويات عميقة من المكان نفسه، فيما الزمن الفارغ لدى مطلك خال
من التاريخية ويستجمع عبثاً في مظان البحث الأركيولوجي الاستشراقي والكولونيالي،
عن مكانه وموقعه الحقيقي في رمال آشور المترامية كذاكرة رافدينية، لا تحددها لحظة
محلية مفارقة ومعاصرة.
كان بروست يقول «لو ظل لي في الأقل ما يكفي لتحقيق كتابي، لما فاتني أن أطبعه
بطابع الزمن الذي يسودني بهذا القدر من القوة، ولو وصفت الناس فيه كأنهم كائنات
خيالية، كأنهم يشغلون بالزمان مكاناً آخر أوفر اتساعاً بكثير من المكان اليسير
جداً الذين خصوا به». إن القدر الكبير من التماسك الزمني والمكاني في البحث عن
الزمن المفقود، لا يساوي الضائع والمهدور من الزمن الفارغ في «دابادا»، فالصرخة
التي تطلقها الرواية في الفراغ، كما جاء في الغلاف الأخير، لا يمكنها أن تنتقل إلى
الأسماع أبداً، لأن تردداتها ستصطدم في فضاء فارغ، والكائنات التي تبدو خيالية
ومترابطة ومتكاملة مع مكانها السردي الجديد لدى بروست، ستكون أقل من شروع واقعي في
دابادا، وتتعرف إلى نفسها لأول مرة لدى مطلك.
ولعل العنصر السردي المشترك بين الزمنين
الضائع والفارغ هو محتوى اللغة الذي سيحسم عودة الضائع، وتشكيل الفارغ كما يضمن
ملء وتوضيح جميع الفجوات وإحياء مكان السرد الجديد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في صحيفة (القدس
العربي)، العدد 11823 بتاريخ 8/9/2025م
https://pdf.alquds.co.uk/wp-content/uploads/2025/09/Alquds-2025-09-08.pdf